في البحث عن أغاتانغل كريمسكي


استقبلتنا العاصمة الأوكرانية كييف بالزينة وهي تحتفل بعيدها الموافق للأحد الأخير من شهر أيار/ مايو. قادتني قدماي عبر الشارع الرئيس في المدينة "خريشاتيك" باتجاه "ساحة أوروبا"، وكان عليّ أن انتقل إلى الجهة المقابلة من الشارع عبر ممرّ تحت أرضيّ فور وصولي إلى "ساحة الاستقلال"، هناك يحتشد باعة التذكاريات والورود. إلى اليمين استلمت شارع غروهيفسكي. قصدت المبنى الرابع، الذي تحتل جزءاً منه "أكاديمية العلوم" التي تحمل اسم الأكاديمي البروفيسور أغاتانغل كريمسكي (1871-1941)، حيث يقع على الطابق الثاني "معهد الدراسات الشرقية"، وإدارة تحرير فصلية "سخيدني سفيت" (عالم الشرق)، التي رأس تحريرها كريمسكي بين العامين 1927 و1931، ثم تم القضاء عليها، مثلها مثل جميع الدراسات الشرقية في تلك الحقبة.
ما تضمنته الدورية، التي أعاد إحياءها أحد تلامذة كريمسكي البروفيسور أوميليان بريتساك في العام 1996، على أهميته لعقدين من الزمن، ليس سوى بعض انعكاسات للنصوص الأصلية التي نشرها كريمسكي في حياته، وخاصة إثر عودته من بلادنا، فكان علي أن أقضي يومين آخرين منقباً عنها بين مئات أكشاك بيع الكتب القديمة قرب محطة مترو "بيتروفكا".
يحظى كريمسكي باحترام كبير لدى الأمة الأوكرانية، ويعتبر رائد الاستشراق فيها. وتترجم أوكرانيا الحديثة ذلك الاحترام بتسمية العديد من الشوارع والساحات العامة والمؤسسات العلمية والتعليمية، باسمه، وتجد تماثيله في مختلف الأماكن. وقد عمل في الحقل العلمي منذ كان طالباً في "معهد لازريفسكي للغات الشرقية – موسكو، الذي تخرّج منه في العام 1892، قبل أن ينضم إلى "كلية التاريخ والدراسات اللغوية" في جامعة موسكو، التي تخرج منها في العام 1896. وكانت أولى بعثاته الخارجية إلى بيروت العثمانية من أجل إتقان اللغة العربية ولهجاتها الشامية. وقد استغل كريمسكي فترة وجوده التي استمرت لعام ونصف العام لب (1896-1898)، بين (سوريا) بيروت ولبنان (متصرفية جبل لبنان) في جمع المواد العلمية لبحوثه المقبلة في التاريخ العربي والإسلامي والدراسات القرآنية.
ترك كريمسكي دراسات منها: تطور الصوفية حتى نهاية القرن الثالث الهجري، محاضرات حول القرآن، تاريخ الإسلام في ثلاثة مجلدات، تاريخ تركيا وآدابها، تاريخ العرب والأدب العربي في ثلاثة مجلدات، تاريخ فارس وآدابها وحكمة الدروشة الصوفية في ثلاثة مجلدات، تاريخ الأدب العربي الحديث، نظامي ومعاصروه، إلى جانب عشرات المقالات العلمية وترجمات أشعار الخيام وحافظ وسعدي، والقصص الاجتماعية، عن بيروت وأوكرانيا وتتار القرم وشعوب القوقاز، التي تناولت العادات والأعراف واللغات ولهجاتها.
بعد ثورة أكتوبر 1917، باتت حياة كريمسكي دائماً تحت مجهر السلطة السوفياتية، فقد كان منخرطا في الحركة القومية الأوكرانية، التي نادت باستقلال أوكرانيا. وقد عرّضه ذلك في عشرينيات القرن الماضي لملاحقة السلطات، بتهمة الانتماء إلى "القوميين البرجوازيين"، لكن بعد ضمّ غرب أوكرانيا إلى السلطة السوفياتية رُدّ الاعتبار إليه لفترة. وعلى الرغم من أنه نجا من حملة التطهير في ثلاثينيات القرن الماضي إلا أن السلطات منعته من ممارسة أي نشاط أكاديمي لنحو عشر سنوات. في العام 1939 أعيد إليه الاعتبار من جديد، لكن بعد نشوب "الحرب الوطنية العظمى" في تموز/ يوليو 1941، اعتقلته الشرطة السرّية (المفوّضية الشعبية للشؤون الداخلية – NKVD) ورحّلته إلى كوستناي في كازاخستان حيث لم يصمد في الاعتقال كثيراً، وقضى في "ظروف غامضة" وهو في الحادية والسبعين من عمره. وهكذا اختفى كريمسكي، وغابت كتبه ودراساته، وأي ذكر له.

العودة إلى الحياة
استمر التعتيم على كريمسكي إلى أن أعادت إحياءه "منظمة اليونيسكو" بضم تاريخ ميلاده إلى روزنامة مشاهير العلماء والكتّاب العالميين في العام 1971، في المئوية الأولى على ولادته. ولا ندري مدى الإحراج الذي سببه ذلك للسلطات السوفياتية، لكنها أعادت طباعة بعض من كتبه على عجل. ثم تم إعداد جزء من أعماله للنشر، فظهرت تلك الأعمال المختارة في خمسة أجزاء بين العامين 1973 و1974. وقد شكلت بحوث كريمسكي ودراساته الاستشراقية المتنوعة، في العقود الأربعة الماضية، مصادر بحثية لعدد كبير من الدراسات الأكاديمية الاستشراقية في دول الاتحاد السوفياتي السابق.
عربياً، وضمن مشروع ترأسته المستشرقة إيرينا سميليانسكايا، التي كانت قد نشرت عدداً كبيراً من الأبحاث المبنية على المادية التاريخية كنظرية علمية، أعدّت ضمن توجهات السلطة السوفياتية في الثمانينيات، جملة من الوثائق التاريخية الروسية لترجمتها إلى العربية على يد المترجم الموثوق من السفارة السوفياتية في بيروت الأستاذ يوسف عطالله. وقد راجع تلك الوثائق بعد تعريبها وعلق عليها الأستاذ الدكتور مسعود ضاهر، بالتوازي المراجعة والتقدم لـ"سلسلة تاريخ المشرق العربي الحديث". وضمنها كتاب "البنى الاقتصادية والاجتماعية في المشرق العربي على مشارف العصر الحديث"، لسيميليانسكايا، وكتاب "الحرب الوطنية التحررية في سوريا 1925-1927: صفحة مشرقة من النضال العربي ضد الإمبريالية الفرنسية" لأستاذها الأكاديمي السوفياتي فلاديمير لوتسكي، الذي وجّهها إلى هذا الاختصاص.
وبالفعل تُرجم عددٌ من الوثائق التاريخية، أهمها "لبنان واللبنانيون" للقنصل الروسي قسطنطين بتكوفيتش، "سوريا ولبنان وفلسطين في النصف الأول من القرن التاسع عشر" وهو عبارة عن مجموعة من التقارير... ولم يكن بالإمكان إغفال كريمسكي، فقد كان أهمّ من أن يُغفل، لكن كتابه الذي اختير للترجمة إلى العربية لم يكن كتاباً في الواقع، وليس بحثاً أو تقريراً علمياً أو تاريخياً بل مجموعة الرسائل التي قام بإرسالها من سوريا (بيروت) ولبنان (جبل لبنان) إلى أهله (والده، وأخيه، وأخته، وزوجة أخيه) في أوكرانيا. تلك الرسائل لم  ينشرها في حياته، إنما دوّن فيها ملاحظات لكتابة عدد من البحوث والقصص الاجتماعية، ومنها ديوان شعري من ثلاثة أقسام بعنوان "سعف النخيل" ومجموعة من النصوص الاجتماعية البالغة الأهمية بعنوان "قصص بيروتية".
والرسائل المترجمة عن أحد الأجزاء المختارات بعنوان "رسائل من سوريا ولبنان"، حُذفت أجزاءٌ منها، وبعض الرسائل حذف بالكامل، كما تم تجهيل متلقي الرسالة، وتم ضمّ أجزاء من الرسائل إلى بعضها البعض. والخلاصة أن ما تبقى من تلك النصوص جُمع وضُمِّن في كتاب "بيروت وجبل لبنان على مشارف القرن العشرين: دراسة في التاريخ الاجتماعي من مذكرات العالم الروسي الكبير أ. كريمسكي" بقلم ضاهر، وتقديم سميليانسكايا. وبذلك يكون كريمسكي، الذي تعتبر بحوثه ودراساته أكثر أهمية من معظم الدراسات المترجمة إلى العربية، قد قدّم إلى القارئ العربي عبر ملاحظات أولية، وليس "مذكرات"، تضمنتها رسائله إلى أهله، كما هو مذكور على غلاف الكتاب.
وقد جرت في السنوات الأخيرة محاولات للإضاءة على أعمال كريمسكي وأهمية نصوصه الاجتماعية التي كتبها عن بيروت خلال شتاء وربيع 1897، أهمها ندوة بعنوان "كريمسكي رائد العلاقات الثقافية والإنسانية بين أوكرانيا ولبنان"، التي نظمتها "الجامعة الاميركية للعلوم والتكنولوجيا" بالتعاون مع السفارة الأوكرانية في بيروت، بتاريخ 18 تشرين الثاني 2011، والتي شارك فيها المستشرق الأوكراني تلميذ كريمسكي مدير تحرير مجلة "سخيدني سفيت" ي. م. كاتشوبيه. وقد كان لي شرف المشاركة في جملة من البحوث المتعلقة بكريمسكي نشرتُ ملخصات بعضها.

الرحلة اللبنانية
تضمنت رسائل كريمسكي كمّاً هائلاً من الملاحظات والمشاهدات عن بلادنا. وقد أولى العالم اللغوي أهمية للهجات وتباينها، وللعادات الاجتماعية والأعراف. عاش كريمسكي في بلادنا من تشرين الثاني 1896 إلى أيار 1898، وكان في الخامسة والعشرين من عمره عند وصوله إلى بيروت العثمانية. استقر في منطقة الرميل البيروتية عند أسرة عطايا الأرثوذكسية.
بوصفه لغويا، اهتم كريمسكي في المقام الأول بموضوع اللغة. كان يعرف العربية الفصحى إلى جانب 16 لغة أخرى، لكنه واجه صعوبات في فهم العامية البيروتية، والعامية الشامية التي حملتها العائلات النازحة من دمشق إثر أحداث 1860. وما إن مرّ عليه شهر في بيروت حتى "بدأت الأذن بالاعتياد على التمييز بين أصوات الكلام"، كما قال.
رسائله غنية بالمعلومات الاقتصادية والاجتماعية. فقد حلّ في بيروت عندما كانت تشهد نمواً اقتصاديا وعمرانيا متسارعين، وسكانها الذين تجاوز عددهم مئة ألف، وغالبيتهم من المسيحيين، كانوا يعملون بطريقة أو بأخرى في مجال التجارة. وقد ذكّر ذلك كريمسكي بجوّ مدينة أوديسا الساحلية على البحر الأسود، حيث تنمو التجارة جنباً إلى جنب مع العمران. فعلى مرأى منه كان يتم توسيع بناء الميناء وشقّ الطرق والسكك الحديدية، وتفتح فروع لأكبر البنوك الأوروبية. ذلك إلى جانب تعزيز موقف فرنسا، حيث باتت الفرنسية لغة الحياة التجارية، وكان البيارتة يحرصون على تعليمها لأطفالهم. وقد أولى كريمسكي اهتماما كبيرا بمشاكل الوعي البيروتي الاجتماعي. فكتب عن النقاشات والنزاعات العامة، التي اكتسبت شعبية بدرجة معينة، وحضر المناقشات الثقافية التي كانت تبحث في دور العلم في التقدم، والمجتمع، ومنجزات الحضارة، نسبة اللهجات المحكية من اللغة الفصحى.
أحبّ كريمسكي بلادنا وقد ذكّره جبل لبنان الجبل ببلاده فمنه "تفوح رائحة أوكرانيا المنعشة". أما بيروت فقد كانت لها مكانة خاصة في قلبه، وحمل حبّها معه إلى أوكرانيا، وبثّ ذلك الحبّ في أشعاره الكثيرة، ونقله إلى تلاميذه، لاسيما المستشرق الكبير العلامة إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883-1951). كتب كريمسكي: "بيروت رائعة في جميع الأوقات، إنها الأبهى بين المدن الشرقية التي شاهدتها.. لو كانت أرضيات الغرف في بيروت خشبية، ولو وُجدت مواقد للتدفئة، لكانت الجنة بحدّ ذاتها".

المصدر: مجلة "بدايات"، ربيع 2016. 

Comments