فائض في العمل لدى عشرينيين يبحثون عن وقت

خياطة، دهان وأدوات صحية إلى جانب الدراسة الجامعية
فائض في العمل لدى عشرينيين يبحثون عن وقت

المستقبل - الخميس 5 كانون الثاني 2006 - العدد 2144 - شباب - صفحة 10
عماد الدين رائف
فيما تتنامى نسبة العاطلين من العمل في لبنان، وتتزايد أعداد الشباب في طوابير البحث عن وظيفة، نجد بعض الشباب وقد شقوا طريقهم إلى الحياة المهنية مبكرين، ولم يفوتوا فرصة الالتحاق بالدراسة الأكاديمية في زمن لا يرحم. من التجارب "الناجحة"، كما تصف نفسها، عبير، الفتاة المحجبة الجميلة الابتسامة. تقول بثقة تامة: "لم تكن فكرة تصليحات الخياطة على البال أو على الخاطر، فالشهادة التي تحملها أختي من معهد لتصميم الملابس لم تنفعها في قليل أو كثير". أما عبير التي لم تتخط العشرين فـ "صارت تغطي مصاريفها وبعض المصاريف الطارئة على المنزل كذلك". كما يشير أخوها الأصغر، الذي بات ينعم ب"خرجية" أفضل بعد أن ازدهرت "تصليحات عبير". أتمت الفتاة دورة في الخياطة، ثم ابتاعت ماكينة مستعملة، لكنها "بروفيشينال"، فصارت تتعلم بثياب إخوتها وأمها لمدة عام، قبل أن تحوّل جزءاً من الغرفة الأمامية للمنزل الأرضي إلى مشغل للتصليح. تشرح: "اليافطة الخارجية تجذب بعض الزبائن، وكذلك فإن الكثيرات من الجارات يحتجن إلى زرٍّ هنا أو لقطة هناك، ولا يخلو الأمر من تقصير بناطلين أو توسيع أو تضييق، وصدقني التصليح يأتي بمصاري أحسن من الخياطة نفسها". تفتح جارورها الصغير وكأنها تكشف سرّاً، فأكبر ورقة عملة فيه هي ورقة الخمسة آلاف، إلا أن الجارور يبدو محشوّاً بأوراق الألف الزرقاء. وسعادة عبير الأكبر تكمن في الاستحقاق الذي أمامها، وهو أنها أمام سنتها الجامعية الأولى في الأدب الإنكليزي."أوفرأول" ومرجوحةينأى علي بنفسه قليلاً عن العمال والمعلّمين في الورشة حيث يعمل، يختار ظل عمود ليفرش ورقة جريدة على الأرض الاسمنتية، يضع عليها بتأن علبة طعامه التي أعدتها والدته قبل انطلاقه إلى عمله صباحا. يقول معرّفا عن نفسه: "هندسة مساحة، سنة أولى". الجامعة الخاصة التي اختار كي يكمل الاختصاص الذي بدأه في مرحلة التعليم التقني تلتهم ما يحصّله في الورشة وزيادة. لكنه يبدو سعيداً بعمله في الورشة كـ"نصف معلم دهّان"، أو "بويجي"، كما ينعته رفيقه تيسير الذي لم تتوفر لديه "ظروف ملائمة كي ينهي الابتدائي الثالث"، كما يقول. يصف علي حياته قائلا: "العمل ممتع جداً، ولا يتعدى الثماني ساعات يوميا، لكنه متقطع خصوصاً في فصل الشتاء. فالدهان الخارجي يتطلب أن نعمل على جدران غير رطبة". ثم يشرح عن المهنة، التي بدأ بمزاولتها منذ الصف السابع صيفاً، فيقول :"إذا كانت البضاعة مؤمنة، وهذا هو الحال غالبا في الورش، فالبضاعة إما أن يؤمنها صاحب الورشة فيأتي بأشرف صنف واطي، وإما أن نحصل عليها من التجار بموجب شيكات مؤجلة من المقاول، والباقي عليّ وعلى الشباب، نقوم بطلاء الجدران الخارجية للمبنى بالسرعة المناسبة". يتقاضى علي 18 دولارا عن يوم عمله، وهو بذلك يبدو المفضل بين رفاقه لدى المقاول إذ لا تتعدى يومية العامل السوري سقف العشرة دولارات. يقول : بعد انسحاب السوريين قلّ عدد العمال، وتناقص أكثر بعد تقرير السيد ميليس، وأعتقد أن اليوميات إلى ارتفاع بعد شهر أو شهرين". أما عن الدراسة في الجامعة، فهو يحاول أن ينظم جدولا صارما للمتابعة فيها، فيضيف :"كل يوم أذهب فيه إلى الجامعة أخسر على الأقل خمسة آلف ليرة بين مواصلات وترويقة وغيره، أما يوم العمل فهو لا يعوّض، كما ترى، نحصل على اليوميات بعد ظهر السبت، فأقسم الغلّة بيني وبين أمي ونتابع حياتنا، والشغل ماشي والحمد لله".ينتهي علي من طعامه وكلامه معا، فعليه أن يقوم بطلاء جزء كبير متبق من الجدار الخارجي للمبنى ـ الورشة، فيقف في "أوفرأول" تكدست عليه بقع طلاء مختلفة الألوان والأحجام، ثم ما يلبث أن يتسلق "المرجوحة". وهي عبارة عن لوح خشبي مربوط بحبال مشدودة إلى بكرات حديدية على سطح المبنى. والعمل على المرجوحة يحتاج إلى مهارات خاصة، وقدرة عالية على التوازن أثناء ممارسة العمل، وفيما أراقبه يتوجه إليّ صاحب الورشة وكأنه يقرأ أفكاراً لم ترد في ذهني، فيقول :"الورشة مؤمّنة، يوجد عقد تأمين للعمال، ولا يهمّك"."مَعلَمة"يختلف عمل كامل عن علي من حيث المضمون لا الشكل، فالعشريني الذي ابتدأت سنته الثالثة في كلية الحقوق، يتريث بالتوجه إلى الجامعة كي لا يضيّع "الشقة" من يديه. يعمل كامل في مهنة الدهانات الداخلية، وهو يأخذ بعض الأشغال على حسابه بعد أن وثق بمعاملته بعض تجار مواد الطلاء فصاروا يزودونه بالبضاعة. يحدثني عن بداية عهده بالمهنة، فيقول :"كنت في السادسة من عمري عندما بدأ عمي الأصغر يصطحبني إلى الورش والبيوت التي يريد أصحابها طلاءها، وهكذا تعلمت، ثم بدأت تقنيات المهنة بالتطور شيئا فشيئا. الآن أستطيع أن أشتغل لوحدي، وقد أحتاج أحياناً إلى عامل بين يديّ فأقوم بتعليم أخي الصغير بعض تقنيات المهنة". يختلف زيّه عن زيّ عمال الدهانات الخارجية، والسبب كما يقول :"تكمن مهارة الدهان في أن لا يلطخ ثيابه بنقطة واحدة من الطلاء، وهذه هي "المعلمية"، فنحن ندهن الجدران لا أنفسنا. الشهر الماضي دهنت شقة كانت أرضها مفروشة بالموكيت، الله وكيلك ولا نقطة نزلت على الأرض". يتمنى المحامي أو "مشروع محامي، كما يسمي نفسه أن يتفرغ للدراسة ومهنة المحاماة في المستقبل، لكنه يعرف انه إن استمر الوضع الاقتصادي في لبنان على ما هو عليه الآن، فسيكون مضطراً إلى متابعة العمل كدهان حتى في أيام التدرج. ويكون كذلك قد انتهى من تقسيط شقته الصغيرة المرممة، التي وجدها "لقطة". ما أن أنهي حديثي معه، حتى ينادي عليّ مجددا، فقد نسي أن يخبرني انه أثناء العمل في أحد المشاريع الكبيرة استطاع أن يعلم اثنين من العمال الأميين القراءة والكتابة، يقول ممازحا: "بعد أن علمتهما صارا يستطيعان قراءة الأرقام تحت الأصناف على الكاتالوكات فأرادا التعليم عليّ في الدهانات".ابن مدارسلم يعتد موسى أن يتحدث عن نفسه، فقد كان في معظم لقاءاتي به يتحيّن الفرص ليلقي نكاته البذيئة على مسامع الحاضرين، أما عند سؤالي له عن المهنة والجامعة معاً، وكيفية توفيقه بينهما صمت قليلاً، ثم أجاب :"اشتغل بالـ(?) ولا تعوز الـ (?)". موسى لم يعد "فقيراً" كما كان منذ ثلاث سنوات، فقد عاد إلى مهنته كسمكري. واستطاع أن ينجح على الحافة في البكالوريا، وكذلك أن ينهي سنته الجامعية الأولى بنجاح "في أحد الاختصاصات غير النافعة" كما يقول. بعض التصليحات المنزلية التي تبدو مستعصية لغير العارفين بأسرار المهنة يعتبرها بسيطة، فهو يعتمد في جزء كبير من مصاريفه على التصليحات الصغيرة. يقول :"يكثر تغيير موتيرات المياه في فصلي الصيف والخريف، وكذلك القساطل الخارجية والشقالات، فيكون العمل في تبديلها خبزنا كفاف يومنا". عن العمل في الورش يضيف :"تغيّرت المصلحة كثيراً عما تعلمنا، فليس لديّ العدة المناسبة للعمل في الورش، لم نعد نستعمل مواسير معدنية في التمديدات، كل شيء صار بلاستيك مقوى، ففي الورش أعمل إن اضطررت لذلك تحت يد مقاول أو معلم كبير". أما في المنازل فلا يعصى عليه شيء، كما يوضح.يصطحب موسى معه جاره فريد "إبن المدارس" كما يصفه، فـ "فريد في سنته الثانوية الأولى، وهو ضخم الجسم، كما أجسام، ما شاء الله، يمكنه أن يحمل أي شيء، ويتعلم المصلحة بسرعة خاصة في أيام العطل المدرسية". فهما اشتريا "موتسيكل شركة"، وبعد العمل يتناوبان على التجكيل عليه في الزواريب المحيطة بالحي. يقول موسى :"ها هو فريد بعد كم سنة سيصير معلّماً في المصلحة، فإذا لم تنفعه الشهادة فيستطيع أن يحصّل لقمة عيشه" أما فريد فيردد قبل أن أودعهما بيتين من الشعر كان قد حفظهما على مقاعد الدراسة، فيقول :" نحن أصحاب الحرف/ ليس يعنينا الترف. ولنا كل الشرف/ أننا نحيي المهن".

Comments