فادي الصايغ مهندس بالفطرة و"مجاهد" لتسهيل ظروف المعوقين

فادي الصايغ مهندس بالفطرة و"مجاهد" لتسهيل ظروف المعوّقين
المستقبل - الخميس 1 كانون الأول 2005 - العدد 2113 - شباب - صفحة 11
عماد الدين رائف
قد يستغرق إيجاد موقف للسيارة أكثر من نصف ساعة من وقت فادي الثمين، يدور في شوارع مكتظة بالسيارات باحثاً عن فسحة صغيرة ليركن فيها سيارته الصغيرة الأمريكية الطراز. بعد أن يجد مكانا شاغرا قرب الرصيف، يفتح الباب على وسعه، يستل عصا حديد ذات رأسين يستطيع بواسطتها أن يصل إلى كثير من الأزرار والأشياء المتناثرة على المقعد الأمامي. على ظهر السيارة ينام كرسيه مربوطاً إلى سكة حديد، فيوقظه محرك صغير يحركه على سكة نزولا إلى جانب فادي المنتظر، يفك الأحزمة التي تربط الكرسي بالسكة، ثم ما يلبث أن يرفعها من جديد لتختفي فوق ظهر السيارة. يفتح بيسراه، بحركة جانبية، الكرسي المطوي، يبحث عن طراحة تركها خلف مقعده ليضعها فوق المقعد الجلدي للكرسي المتحرك. يحرر حزاما جلديا من فوق رأسه ليظهر موتير متحرك على جسر حديد، يربط نفسه إلى هيكل معدني واءَمَه مع تعرجات جسده بحلقات معدنية، ثم يربط الهيكل إلى سلك متدل من الموتير المتحرك على الجسر. يتحكم بحركة من يده بالموتير الذي يرفعه في الهواء حاملا إياه إلى خارج السيارة.يضع فادي نفسه فوق الكرسي المتحرك. يحرر نفسه من سلك الموتير. يدفع بالجسر المتحرك إلى داخل السيارة مجدداً، يبتعد عن الباب كي يستطيع إقفاله، وعندها تسمع كلماته المعهودة: "يللا ادفشني".فادي مصاب بشلل رباعي نتيجة حادثة أليمة. لم أشعر يوما بأنه مصاب بأي نوع من الشلل، مفعم بالحيوية يبحث عن حلول لا تخطر على بال لأي مشاكل قد تعترض غير المعوقين، فكيف بتلك التي تعترض المعوقين وقد حفظها عن ظهر قلب. ابتكر الشاب المهندس بالفطرة، مئات الاختراعات التي لم يحتج من خلالها إلى أحد ليمد له يد المساعدة. في بيته، في بلدة الحدت، يصل فادي إلى غرفته من السيارة ثم إلى سريره بواسطة تلك الموتيرات البسيطة والجسور الحديد التي لم تكلفه كثيراً من المال، فهو من اشترى الحديد الصناعي المبسط والفارغ وكذلك الموتيرات، واستعان بحداد "وقف على يده" ليحقق تلك المعجزات الصغيرة، وهو يعمم تلك الابتكارات على كل من يحتاجها من ذوي الحاجات الإضافية، و"لكل معوّق حاجاته الخاصة التي تختلف عن الآخرين، فيجب أن تدرس كل حالة على حدة"، كما يقول.يحمل فادي وآخرون قبله هموم المعوقين من الراديو إلى التلفزيون، إلى مجلة جمعيته، التي غدا مديراً لها (واو - نشرة دورية صادرة عن اتحاد المقعدين اللبنانيين) ينام مع حقوقهم ويستيقظ معها، لسانه لا يكل عن المطالبة بتلك الحقوق التي يشربها من حوله بالملعقة. شكل إصدار القانون 220/2000، قبل خمس سنوات، لحظة مفصلية في حياة كل ذوي الاحتياجات الإضافية في لبنان، فبعد نضال مرير من قبل المجتمع الأهلي، وخاصة بعض جمعيات الإعاقة الناشطة حقوقيا، مع الحكومات المتعاقبة وسياساتها "المضحكة" تجاه المعوقين، توصل المشرّع اللبناني إلى ذلك القانون الذي يعده بعض الباحثين من القوانين المتقدمة على الساحة العربية."تجاهل المشرّع اللبناني المعوقين فلم يشركهم في صياغة القانون، جاء القانون عقيماً فلا مراسيم، ولا آليات للتطبيق في كثير من بنوده، حصر كثيراً من القضايا الحساسة بالهيئة الوطنية للإعاقة، تلك الهيئة التي تجتمع لتجتمع، وتفترق لتفترق لا لشيء آخر".على الطريق الطويلة نحو البقاع الغربي يشير فادي إلى بعض ذكرياته التي تركها في مخيمات تطوعية قضى فيها أحلى أوقات "جهاده" في سبيل قضيته. تأخذنا الطريق إلى الخيارة فكامد اللوز، ثم إلى جب جنين، يذكر أصدقاء له في صغبين فيقرر أن تطول طريقنا إليها، ليكون عشاءنا في عين زبد مع مشروع آخر لتغيير حياة من يحتاج إلى ابتكارات وتصاميم تكيف الأمكنة وفقا لحاجات فتاة هناك. ومن الجنوب إلى مبنى "الإسكوا" الذي لم يستطع أن يصل إليه فادي إلا على الطريق المخصصة للسيارات، كان يريد مقابلة أحدهم ليتحدث عن "حقوق الإنسان"، فإذا به لا يستطيع الوصول إلى ذلك المبنى ـ الحصن إلا بعد قضاء ساعة كاملة من الوقت بين موقف السيارات البعيد والأسلاك المعدنية التي سدت كل الثغرات التي يمكن للكرسي المتحرك أن يمر عبرها، مروراً بإجراءات التفتيش المعقدة على بابه. في الطابق الثاني تحت الأرضي في مبنى في الروشة يضم المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في "منظمة العفو الدولية ـ الأمنستي"، كان المنحدر الخاص بالمقعدين عبارة عن لوحين من الخشب فوق خمس درجات، قمت بدوزنة اللوحين قدر استطاعتي، دفعت الكرسي المتحرك الذي لم يطاوعني فأفلت دولابان منه خارج منظومة الخشب، ضحك فادي من خوفي وارتباكي وأنا أجر الكرسي إلى الخلف، وقال: "اتركني شو رح إنشلّ؟". لم أتركه، كنت بحاجة إلى أكثر من دقيقة لأستعيد أنفاسي. لم أسأل فادي يوماً إن كان يعرف بكلمات نيرودا: "المسألة ليست في كمية السهام التي في جعبتك، بل كم من النجوم في السماء تريد أن تصطاد؟"، لكنه مثل حيٌّ على ذلك فـ"أحلامه لا تعرف حدوداً".

Comments