هنيدة التاسع أساسي .. والأستاذ الخاص

هنيدة.. التاسع أساسي..والأستاذ الخاص
المستقبل - الخميس 13 تشرين الأول 2005 - العدد 2068 - شباب - صفحة 10
عماد الدين رائف
ابتلاه القدر كما ابتلى كثيرين من زملائه العاطلين من الحياة المهنية "بنعمة" التعليم. كان قد ترك المدرسة الخاصة التي علّم فيها سنوات ثلاثا. تركها مجبراً بعدما استبدله صاحبها "المربي الكبير" بأحد أقربائه. صار قريب صاحب المدرسة يحتل أحلام صاحبنا السيئة، ويشغل الحصص العشرين التي لطالما أرهقته. خارج أسوار إدارة المدرسة الخاصة التي أغلقت أبوابها دونه وجد صاحبنا نفسه بلا هُوية. فهو أدمن التعليم كما لم يدمن شيئاً آخر، حتى إنه لو خيّر بين التعليم والسيجارة التي لا تفارق يده لاختار الأول بلا تفكير. أخذ يمني نفسه بتعليم الدروس الخصوصية.كان التلامذة الذين قسم وقته بينهم بغاية الطاعة والانصياع لأوامره، لا سيما وهو الذي يملك زمام التلاعب بالأعصاب، ويستطيع أن يوصل المعلومة بين العبسة والابتسامة إلى رؤوسهم المتفتحة على دنيا الشباب. صاحبنا تكنوقراط بالأساسي التاسع. سنة الرعب عند تلامذة المتوسط، سنة الرهبة من الامتحانات الرسمية التي، ومنذ اليوم المدرسي الأول تكون على الأبواب، وتشكل التهديد الأول والمناسب للتلامذة الخائفين.. فيأخذون بالتهام الصفحات واحدة تلو أختها.وهكذا، مرت الأيام التعليمية على رتابتها. انكب صاحبنا على الكتب الصادرة عن الدولة وفق المناهج الجديدة وحفظها عن ظهر قلب بعد أن "مخمخها". الأساسي التاسع كان يحلّق في دماغ صاحبنا الواقف على عتبة الثلاثين. كانت الدروس الملونة بالصور تتراقص أمام عينيه المتعبتين ليلاً قبل أن يطفئهما ليبدأ نهارا جديدا. نهار آخر يقضيه خلف الطاولات البلاستيكية في بيوت الضاحية الجنوبية المتواضعة. مرت أيامه على رتابتها حتى أتت هنيدة.هنيدة ابنة الخمس عشرة سنة. خمس عشرة سنة، لم تقض في أي منها خلف كتاب على طاولة أكثر من دقيقة أو دقيقتين. تكفلت المدرسة الخاصة التي كانت فيها بترفيعها من صف إلى آخر ما دام والدها يسدد الأقساط في مواعيدها المحددة تباعاً. كانت الفتاة تكلّف نفسها بحضور الصفوف يوميا، والإدارة تقوم بسكب العلامات على الشهادة الكرتونية المزينة بمواعظ عن أهمية العلم? ووصلت إلى الأساسي التاسع. غيّر الأهل مدرستها بعد إحساسهم بخطورة حالة ابنتهم في مواجهة الامتحانات القادمة، تعرفوا إلى مفهوم أستاذ الدروس الخصوصية متأخرين. في مدرستها الجديدة الأكثر جدية وصرامة، اعترفت الفتاة بعجزها عن فهم طلاسم الكتب وأسئلة الأساتذة. فكان لا بد لها من "أستاذ".انقضت الأسابيع القليلة التي فصلت بين بدء تدريسه لهنيدة وبين نتائج امتحانات نصف السنة المدرسية. وقف على نتائج الفتاة في مدرستها الجديدة. كانت إدارة المدرسة قد خصصت يوما لاستقبال الأهالي، وتقويم حالة أولادهم الدراسية.هناك صُبَّت النصائح كالسيل على رأس الفتاة الواقفة بأدب جمّ في مريولها الأزرق ناظرة إلى الأرض. وكذلك انهالت النصائح من أساتذة قليلي الخبرة على صاحبنا المتبسم دائما. ضحك في سره وهو يستعيد مشاهد له وهو يسلم بطاقات العلامات لأهالٍ آخرين في مدارس أخرى.. وابتدأت رحلته وهنيدة إلى الامتحانات.على الطاولة أثناء التدريس.. لم تتعب هنيدة من ابتكار طرق لتضييع الوقت المحدد للدراسة. كانت تتفنن في ممانعتها لتقبل أي شرح أو حل لمسألة. هي تريد أن تتعلم على كيفها، ولا يهمها أبدا ما الذي يحمله إليها صاحبنا من شروح ودروس ما أنزل الله بها من سلطان. لم تحس الفتاة بحجم "المصيبة" إلا بعد اقتراب الامتحانات الرسمية. أحست بآمال الأهل المعقودة عليها من خلال عتابهم وتهديداتهم من ناحية، وكذلك من إغداقهم عليها بالهدايا والوعود، بعد النجاح المأمول، من ناحية أخرى. وعلى الرغم من ذلك كله، ما كانت لتؤدي المطلوب منها ولو لمرة واحدة.لم تنفعه الصيحات والعبسات والصوت الجهوري الأجش معها.. "أفّ، شو بتحكي يا أستاذ، يا الله..". كانت تعبر عن استيائها من المصطلحات المتراكمة المستغلقة على فهمها.. "كيف تريدني أن أدرس وأنا لا أستطيع الكتابة، ألا ترى أن ايديّي معضّلين، والله مش قادرة حركهن". أما إن وجدت نفسها مجبرة على الدرس فكانت تقول: "شو بدي أعمل؟ بدي اتحمل"، ثم ما تلبث أن تستطرد: "أستاذ، يلي بدو ينجح، لازم يتحمل". وتصحب عبارتها نظرة جدية توحي بتصميمها على "فتح صفحة جديدة". ذلك التصميم الذي سرعان ما يتهاوى، فتترك مكانها متحججة بأي شيء. وفجأة طارت الأسابيع الباقية ووجدت نفسها أمام الامتحانات.. حكت رأسها الكثيف الشعر، وهمست: "شو بعملّلك إذا هلّق فقت، كنت نايمة شي ست أشهر". طلبت من صاحبنا إعادة شرح كل ما يستطيع شرحه من دروس كانت قد عودت نفسها سابقاً أن لا تستمع إليه أثناء شرحها. ركضت إلى المكتبة القريبة وعادت محملة بكل أنواع الكتب المساعدة لاجتياز امتحانات الشهادة المتوسطة، الواضح، الزاد، الشامل، "غايدات" على تنوعها. وانهمكت بتفكيك ألغاز كل تلك الكتب. لم تنس أن تتوجه إلى السوق لتعود بثياب جديدة. ثياب لكل يوم من أيام الامتحانات الرسمية الأربعة. حتى ربطات الشعر وأشرطة الأحذية كانت تمثل تفاصيل بغاية الأهمية أمام المهمة الخطيرة التي أحست برهبتها متأخرة.. متأخرة جدا.كان صاحبنا قد قام بإعادة شرح دروس كثيرة لها. دروس من السابع والثامن.. حتى إنه في بعض الأحيان أعادها إلى المرحلة الابتدائية، ثم أنهى برنامجا حدده لتحضيرها للامتحانات الرسمية، فيما كانت تسخر منه ومن نفسها في آن معا: "بلكي بتعمل شي معجزة واحدة في حياتك". وتقصد بالمعجزة مهمة الأخذ بيدها نحو النجاح.يوم الامتحان كانت هنيدة في ثيابها الجديدة المخصصة للغة العربية والكيمياء. تخطو نحو يوم الرعب الأول. تسلحت بآلة حاسبة "غير قابلة للبرمجة"، وأقلام ومعلومات كثيرة محشورة في دماغها. تخطو بعد دراسة مملة في عتمة التقنين في حيِّها. تخطو نحو تحقيق معجزتها الأولى، تلك التي لم تتحقق.بدأت سنة دراسية أخرى، هي من جديد في مريولها الأزرق تنتظر نهاية عام مزعج لتصل إلى اليوم الذي ستنتقم فيه من الجميع، وخاصة ذلك الأستاذ الذي زادها من أمرها رهقا، وهو على قارعة الطريق ينفث دخان سجائره الرخيصة دوائر في انتظار تلميذ آخر.

Comments