عندما يتغير كل شيء إلاك...

عندما يتغير كل شيء إلاّك
وتبقى كما أنت يا محمد علي
المستقبل - الخميس 27 نيسان 2006 - العدد 2249 - شباب - صفحة 9
عماد الدين رائف
!أقف مرة ثانية في المكان نفسه، على قبرك. قدرك أن تكون تحت التراب، وقدري أن أتلمس ما فاتك من خطى.كلّ ما يحضرني الآن صورة جدتي وهي توقظني صبيحة العيد حاملة إبريقاً بلاستيكياً أحمر اللون، أسمع صوتها الخفيض يأتي من عالم آخر: "قم نغسل قبر جدك". أنحدر من كرم العين على "كرّوسة" إسمنتية مقطعة مربعات صغيرة، عن يميني تمتد شجيرات الصبّار إلى ما لا نهاية. أغسل ذلك القبر الرخامي الشبيه بقبرك هذا، في انتظار المعمول والأحبة وقارئي فواتح سريعة رطبة، أولئك القادمون من التغرة وسكران والبيدر والساحة، ومن قرى أخرى كان يصعب عليّ التلفظ بأسمائها الغريبة على مسمعي وأنا صغير. الآن، تغير كل شيء، إلا أنت يا محمد علي.أتخمت أذناي بسماع اسمك "محمد علي كان.. محمد علي فعل.. لمّا كان محمد علي"، أتيت كي أقف على قبرك، كي تكون المسافة أقرب لإيصال هذه الرسالة. أنظر إلى مرور السيارات السريع من تحت حافة المقبرة. "التربة"، هكذا تسمى هنا، حيث أقف. عن يميني يقف المصلى، المصلى، المكان الأقرب لإقامة الصلاة على الميت، وهو الحسينية الخاصة بالنساء في أغلب الأحيان. ترقص بعض النسوة بالصور بعد الجنازة، يملن صورة الفقيد ويرقصن بها على أنغام نحيب عاشورائي ونشيج، أذكر ذلك جيداً، فقد سُمح لي أن أكون برفقة النساء عندما كنت صغيراً، رأيت النسوة يرقصن بصور هناك، تخيفني فكرة أن كل نساء القرية تقاطرن إلى هذا المكان واحدة بعد أخرى لترقص بصورة قريب أو حبيب.لم تعد تأسرني الطريق الطويلة نحو حاروف، القرية الجنوبية التي كانت وادعة قبل أن تغزوها ثقافة الباطون، التي أخشى. لم تعد الطريق طويلة كما كانت، اختفت الكروسة القديمة تحت زفت لا يعرف الرحمة، اختفت العين التي كانت تسقي القرية، اختفت المعالم التي اعتادتها عيناي. غزا العشب الربيعي العشوائي قبورا تنتظر أيادي تمسح الغبار عن رخامها، آيات قرآنية وأبيات من الشعر تزين الرخام تنتظر أن تظهر. لم يعد أحد يذكر الطباسين، أتذكر الطباسين يا محمد؟ إنهم قوم من الجن كانوا يسكنون وادياً بين حاروف وجبشيت، وكان واحد الطباسين، أي الطبسون، يعترض المارة في الليل راشقاً إياهم بالحجارة كي لا يقتربوا من عشيرته. اختفت عشيرة الطباسين إلى غير رجعة، فلم يعد لوجودها مكان بين كل تلك البيوت العامرة بالضوء. تقول، لعلها خرافات، لعل الناس كانوا يختلقون ذلك تخويفا لأولادهم وتناقله أهل القرية فصار من عقيدتهم، أليس كذلك؟ وما يدريك؟ ألا تذكر الصالحة؟ تلك المخلوقة النورانية التي تظهر في الليالي الصافية وتطوف على بيوت المؤمنين، كثيرون رأوها في القرية. ربما كانت تبشر بموت مؤمن هنا أو هناك بين أسوار القرية، أو تذكّر أهله به بعد موته. تؤدّي الصالحة مهمة الفراشة الصغيرة، مخلوقة جميلة تنتقل بين عالمين، عالم الأحياء الذي نرزح تحت وطأة اجتهادات ساسته واقتصادييه، وعالم الموتى حيث تسبح روحك يا محمد في فراغ من النور. كثيرة هي الأشياء التي لم تكن لترغب بالتصديق بها، ما رأيك بالمباركة، تلك الأفعى التي تسكن كرم العين، تزور الخيّرين ولا تؤذي غير الأشرار؟ ألا ترغب أن يزورك أحد تحت ترابك الربيعي البارد؟أتيتك قبل أسبوع، لكنني لم أجرؤ أن أتسلق ربوة المقبرة كي أقف قربك، كانت الأفكار تجرني عنك. كنت أخاف أن أعلمك أنني بصدد نبش الذكريات، وتفتيح الجروح. أخشى أن أموت قبل أن أسمع قصتك كاملة، لكن بعض الذكريات تموت مع أهلها، ولا تظهر إلى الأبد. كثيرة هي الذكريات التي لن يخبرني بها أحد عنك، لأنها كما الأحلام تسكن ما تبقى من آثار طلاء آية زينت قبرك. اختفى ذلك الجزء من القصة. لن تخبرني به فاطمة، حبيبتك التي لم أجرؤ بعد أن أنظر في عينيها. كيف أخبرها أن قدرك أنت أن تكون تحت التراب، بعكازك التي حاربت بها من أجل مستقبل أفضل، بضحكتك التي ملأت عالم يحيط بك، بنظرة ثاقبة تتخطى الآني من
الأمور نحو الغد، كيف أخبرها بذلك، وبأن قدري أنا، المتغيّر، التائه، أن أتلمس ما فاتك من خطى؟
محمد علي حرب: المدير العام السابق لاتحاد المقعدين اللبنانيين

Comments