المهنة: بائع مياه ضمن أسوار الضاحية الجنوبية

رسم: الزميل الفنان مروان حمام

المهنة: بائع مياه خدمة ضمن أسوار الضاحية الجنوبية
عماد الدين رائف
السفير 05/10/2005
يتدلى رجل من شباكه على الطابق الثاني في بناية قديمة عالية السقوف، لا تكاد تظهر داخل غابة من الأسلاك الكهربائية المتنافرة الألوان. يتدلى ويظهر حبل في يده. يحاول أن يلقي به إلى بائع المياه المنتظر قرب شاحنته الصغيرة. في صندوق الشاحنة يربض خزان معدني كبير يطفح بالمياه المحمولة من الناعورة القريبة. ينجح الرجل بعد عشر دقائق في رمي الحبل الممسك بطرفه الآخر بإحكام، كي لا يعيد الكرة، بعد أن أفلت من يده في المرة الأولى وكان عليه أن ينزل ليستعيد حبله بعد أن يخلصه من بين أسلاك الكهرباء التعليق والموتيرات. يصل الحبل إلى يد خالد، المبتسم دائماً. خالد بائع مياه ضمن أسوار الضاحية، ذلك هو اختصاصه كما يقول (كارْته) المطبوع الذي يسخى به حالما تتعرف إليه... نقليات خالد، تأمين مياه للورش والمنازل، تلفون... يربط خالد طرف الحبل بخرطوم مياه أسود سميك وتبدأ رياضة الجذب، فعلى الرجل أن يجذب الخرطوم إليه حتى يرفعه إلى الطابق الثاني، ثم إلى بركته الصغيرة التي تحتل مساحة من التتخيتة، كما هي معظم الشقق القديمة. في تلك الأثناء يتصايح جمع من المواطنين الآخرين المحرومين من المياه قرب خالد الذي لا يريد أن يزعّل أحدا. كل يريد أن يسحب من ماء الخزان إلى بيته أولاً. يلف الشاب الأسمر حبلا رفيعا حول بكرة موتيره الذي يدور يدويا، ويقوم بجذب الحبل بشدة فتندفع المياه في الخرطوم الأسود لتجعله منتصبا كالعمود نحو الذين ينتظرون نعمة المياه. يقول خالد مفسرا بعض مصطلحات المصلحة: <<البرميل باصطلاح أهل المياه يعادل 200 ليتر. وسعة خزان الشاحنة عشرون برميلا. أما الأنبوب الخارجي الشفاف فهو يظهر كمية المياه المتبقية، وبالتالي كم استهلك كل زبون>>. وعلى الرغم من أن التسعيرة تختلف من يوم إلى يوم، حسب الحاجة إلى المياه وإلحاح الزبائن، إلا انه يصر على أن <<النقلة ب 15 ألف ليرة فقط لا غير>>. تضيف إحدى الصبايا المنتظرات: <<لا تأتينا المياه من الشركة إلا مرة كل ثلاثة أيام، ونحن لا نلحق أن نأخذ حصتنا، فنجد انه علينا أن نشتري مياه الخدمة أسبوعيا>>. تساعدها زميلة لها في الانتظار: <<علينا أن ندفع 5000 ليرة في الأسبوع، وكذلك ندفع لشركة المياه وإلا قطعوا المياه شتاء>>، ثم لا تتحرج الفتاة من أن تطلق شتيمة يستعملها الشبان عادة، ثم تقول: <<في كل مرة نحصل على وعود جديدة، مياه، كهرباء، طرقات، زفت، بلوط، بطيخ مسمر...>>. يسكتها الشاب الواقف عن يمينها، ليتهكّم: <<وين هيِّ الدولة؟>>، بصوت مسرحي مميز يوحي بالسخرية، فتضحك النسوة المجتمعات، وكأنهن اعتدن أن يسمعْنه منه. إنها الضاحية الجنوبية لبيروت، إنها جنة بائعي المياه الذين يعرفهم كل من يحتاجهم، فمثل خالدنا عشرات يجوبون الشوارع الضيقة المكتظة بالبشر والسيارات والدراجات النارية وعربات الباعة المتجولين، أو المتهالكين على كراسيهم الصغيرة في ظل عمود أو حائط. الضاحية العطشى تنتظرهم، في الصباحات، قبل الشروق، يصطف رتل من الشاحنات الصغيرة التي تحمل خزانات مياه متفاوتة الأحجام والأشكال أمام <<النواعير>> مراكز التعبئة هناك، وقبل أن يبدأ النهار الحامل لجرعات جديدة من السمرة لبشرة خالد، هيثم، حسين، وعلي وآخرين كثر، هناك تبدأ القهوة الصباحية المصحوبة بدخان السجائر بالتسرب إلى عيونهم المتفتحة على يوم جديد لن ينتهي قبل منتصف الليل. عدّتهم البيك أب، خزان مياههم، موتير قوي، خرطوم مياه يصل إلى السطوح... وجهاز خلوي يصلهم بالزبائن. على بعد شارعين من الزبون الأول كان زبون آخر قد <<فتح مشكلا>> مع جيرانه، كان يتهمهم بالتهام حصته من المياه. وقف فوق الخزان الحجري الكبير، كانت عشرة موتيرات صغيرة تتدلى منها أفاع معدنية تسحب المياه إلى شقق البناية بخراطيم ملونة. وقف الرجل عاجزا عن سحب نقطة مياه واحدة إلى شقته، يقول: <<لدى البعض موتيرات حصان أو حصان ونصف، لدى البعض الآخر موتيرات أوتوماتيك، يعني لا تشتغل إلا إذا كان يوجد مياه في الخزان، أما أنا فموتيري بالكاد نصف حصان>>. تتركه قبل أن يبدأ ب <<سيموفونية>> نق أخرى في انتظار هيثم. ابتسم هيثم للرجل المنتظر، بدأ العمل، كان عليه أن يفرغ كمية كبيرة من المياه في الخزان الحجري الكبير، <<أكثر من عشرة براميل، لأنه إن كان أقل من عشرة، والله ما بتوفي>>، رضي الرجل الذي أخبر جيرانه أن المياه مشتراة، وهددهم إن هم سحبوا مياهه هذه المرة. ولمزيد من الاطمئنان كان عليه أن يقف حارسا على الخزان فيما كان موتيره <<النصف حصان>> يسحب براميله العشرة. هيثم، العشريني ذو العينين نصف المفتوحتين، ينتظر نهاية يوم عمله مع الرابعة، أو أبكر إن استطاع أن يتملص من الزبائن، كي يجغّل بسيارته الحمراء الجديدة المستعملة. نصف الاتصالات تصله من فتيات يأمل أن يفسحهن بسيارته <<إن شاء الله>>. تلاسن حسين مع ناطور إحدى البنايات، كان يحاول أن يفهم الرجل الغاضب أن مهمته تنحصر في تفريغ نقلة المياه التي يحملها في خزان الورشة. لم يستطع أن يوصل الفكرة البسيطة إلى الناطور فأقفل راجعا. تنظر إلى غالون بنزين إلى جانبه. يقوم الغالون بوظيفة خزان الوقود. يقول: <<ألغيت الخزان بعد أن تعرضت للسرقة أكثر من مرة، فقمت بملء خزان الوقود بالمياه تضليلاً للسارقين وإيذاءً لهم، واستعضت عنه بغالون صغير أضعه بين المقعدين الأماميين. يضحك وهو يتخيل كيف أن السارق قد أفرغ المياه التي يعتقد انها بنزين في رزيفوار سيارته. أما الآن وقد عاد ولم يفرغ نقلة المياه، فيكاد يغلي، كانت حبيبات العرق تسقي سكسوكته الصغيرة الشقراء، وهو يوزع الشتائم حينا ويصبها على الناطور حينا آخر. فيما علي يفرغ نقلة مياه، أتاه اتصال من زبائن متعددين في بناية واحدة. <<غريب، ألم تشتر نقلة البارحة، ماذا فعلت بنقلة كاملة؟>>. يعتبر سحب المياه إلى الطوابق المرتفعة، خاصة في البنايات التي لا خزانات كبيرة فيها، مسألة صعبة. كل زبون يحتاج إلى برميلين أو ثلاثة. <<خذ النربيش وهات النربيش، هيكْ رحْ نقضّيها>>، يقول وكأنه تعب من العمل <<في عين الشمس>>. يأمل أن يلتزم مع عدة ورش حيث ينقل المياه بانتظام <<نقلة، يعني نقلة، وليس برميلين هنا وثلاثة هناك>>. ينظر إليك وكأنه يريد نظرة تعاطف مع تعبه. كان علي قد علّم الأنبوب بقلم أسود عريض كل خط يعني برميل. يمسح الشاب عرقه بكاسكيته المغبرة. يقول :<<الله كريم، بكرا بتفرج>>. يعد فلوسه المرمية من شرفات البناية، أو تلك التي حملها بعض الأطفال إليه. يسامح أحدهم سحب برميلا واحداً متبقاً معه، ويرفض الفلوس. <<مش حرزانة، الأيام جاية>>. هذه حقيقة مهمة، هي أن الأيام قادمة، وسيبقى الزبائن زبائن، سيبقون محتاجين إلى نقلات غير محدودة من مياه الخدمة التي لا تؤمنها الدولة، الدولة التي لا تسامح عندما تطلب حقها في اشتراك المياه، أما أولئك المتخلفين عن الدفع <<فتقطع لهم العيار، وتغرمهم ولا ترحمهم، على الرغم من أن المياه تصل إلى العيار مرة كل ثلاثة أيام>>، على حد قول أحد زبائن خالد.

Comments