إنسحاب سوري... واحد

رسم الزميلة الفنانة سحر برهان

إنسحاب سوري.. واحد
عماد الدين رائف
السفير 09/03/2005
نادى الدكنجي من خلف طاولته بأعلى صوته الأجش <<ماهر. تعال اسمع بشار>>. كان الزاروب قد خلا من المارة مع السادسة مساء بعد أربع ساعات من التقنين. حلت نعمة الكهرباء. احتشد زبائن ومتطفلون خلف الطاولة الصغيرة مزاحمين الدكنجي على كرسيه. أحس ماهر انه معني أكثر من غيره بخطاب رئيسه الموجه إلى الأمة. كان يعرف مسبقا أن خطاب الدكتور لن يتضمن أي تطمينات له شخصيا. ولكنه خطاب طال انتظاره بالنسبة إليه، وإلى من يعرف من السوريين الذين ما يزالون على الأراضي اللبنانية. تجمد الجمع الصغير خلف الشاشة الصغيرة المحشورة بين علب الكونسروة. دخل ماهر الدكان على عجل مخافة أن يفوته شيء من الكلام والتعليقات الساخرة التي اعتاد سماعها منذ بدء الأزمة. <<سبحان الله. مثل أيام عبد الناصر>>. رفع المعنيُّ بالكلام رأسه <<شو جاب لجاب؟ ولكْ بدنا مليون سنة لنعرف قيمة عبد الناصر>>. كانت الأيام الماضية قد أرهقت الشاب العشريني. كان عليه أن يؤمن وصول أسرة أخيه إلى الحدود السورية ثم العودة من جديد إلى بيروت. لكن بيروت التي تركها يوم الجريمة <<لم تعد بيروت التي عهدها>>. نظرات الناس، عقد الحواجب، الكلمات المسيئة، الحركات النابية، <<شعارات ملأت الجدران والقلوب والألسنة>>.. هتافات أطفال لقنتهم إياها عروض متواصلة للجموع الغاضبة أو التي اصطنعت الغضب. تنقلها بأمانة شاشات تلفاز تعلم لغة جديدة <<أميركية اللهجة>>. شاهد بعينيه كيف يهان بعض العمال السوريين في المدينة التي يكنّ لها حبا خاصاً. <<لمَ هي معادية هكذا؟>> كان بعض الفتية يبصقون على عجوز يحمل على ظهره حقيبة كبيرة. وآخرون كانوا يركلونه صارخين <<روح انقبر على بلدك يا...>>. <<حتى أولئك الذين توسمت فيهم بعض الخير وقفوا ولم يحركوا ساكنا! حتى أولئك الذين كتفي إلى كتفهم في صلوات الجماعة كانوا يتفرجون>>. هو شاب كغيره من مئات الشبان الذين قدموا إلى بيروت للدراسة والعمل معا. لم يلتحق بالجامعة في مدينته الداخلية بعد إنهائه لدراسته الثانوية. كانت بيروت بالنسبة إليه الحاضنة و<<الامتداد الطبيعي لأحلام كل شاب يريد أن يشرف على ما وراء كل العرب>>. بيروت الجامعات والمعاهد والمكتبات. بيروت المعارض والمنتديات والحوار.. <<وكأن كل شيء صار سرابا لمجرد كوني من سوريا التي لا يطيقونها.. صرت اليوم أعرف معنى التعصب والتعصب المضاد. أفخر بأنني سوري لم يجف دم أخوالي على مشارف بيروت>>. هو مثقف. <<نعم مثقف>>، ويرفض أن يكون مصطلح مثقف <<حكرا على بعض الذين يجاهرون بعدائهم <<للعروبة والدين والثوابت>>، حكرا على أولئك الذين <<يتشدقون بمصطلحات مستوردة معلبة>>. كانت الضاحية هي مأواه المؤقت. فضل أن يبتعد عن بيروت التي كشرت عن أنيابها. لعله سيتمكن من فهم شيء مما دار حوله في يوميه المرعبين اللذين قضاهما أمام تلفاز صغير في غرفته التي أحبها. صار يمكنه أن يستوقف سوريين آخرين في الضاحية ليتعرف عليهم. أحس لأول مرة في بيروت بأنه <<غريب، مش عيب؟>>. صفق النواب في مجلس الشعب السوري، هتف الشارع السوري. <<ماذا قال؟>>.. كان الرئيس يتكلم عن السيادة. كان يتحدث عن أناس يريدون أي سيد، من أي مكان أتى لا يهم، إلا من سوريا. صفق الدكنجي اللبناني <<والله صحيح>>، هز المتجمعون رؤوسهم موافقين. ثم <<ما الذي أخذه من درب الشباب اللبناني الذي يطالب برحيله؟>>. كان في السنوات القليلة الماضية قد أنفق على دراسته ومعيشته في هذه المدينة أكثر بأضعاف مما أنتج.. <<أليست من إحدى أغلى المدن في العالم؟>> أحب هذه المدينة. الشوارع، المقاهي، المساجد.. <<حرية أن تكون من تريد، أن تكره من تريد كيف تريد، وتقول ما تريد>>. ولكنه لم يكن في حسبانه أن يكون هو المكروه الذي ينادى بطرده على شاشات العالم <<من أميركا إلى الصين>>. أعجبه، بل ربما كل ما علق في ذهنه من خطاب رئيسه المرح ذلك التصوير لتوسعة دائرة الكاميرا على المطالبين برحيل السوريين، فإذا ما وسعنا هذه الدائرة لن نجد في لبنان إلا فقراء كادحين كأولئك الذين تركهم خلفه على بعد مئات الكيلومترات في دياره. أو كهؤلاء الذين يقفون حوله في دكان صغير. انتهى خطاب الدكتور. كانت الأنظار معلقة على ماهر، ماهر السوري الذي يقف في دكان في ضاحية بيروت الجنوبية، يقف قرب سوداني ناطور، وبنغالي عامل محطة، وفلسطينيين يعانون لجوءاً مزمناً، وعراقيين لا يرغبان بالعودة إلى عراقهم الجديد، ولبنانيين لا يدرون ما الذي يحدث، ومن الذي يحرك ما يحدث. ولكنه كان أمام الشاشة بجسمه فقط. خياله أخذه بعيدا. أخذه إلى سهول وتلال وتفاصيل طريق طويلة طريق يمكنه أن يستعيد تفاصيلها لكثرة ما اعتادها في سنواته الأخيرة. ستقوده إلى حيث ولد، إلى حيث ينتمي. إلى سوريا. لعله من هناك سيفهم ما لم يفهمه هنا. بعد يوم من الخطاب، حزم أمتعته وكتبه ومضى.

Comments