الموعد الأول: لحظات مسروقة باهظة الثمن

الموعد الأول: لحظات مسروقة باهظة الثمن
المستقبل - الخميس 25 آب 2005 - العدد 2019 - شباب - صفحة 8
عماد الدين رائف
لم تكن سفيتلانا تتوقع أن تجد جوزف ستالين بانتظارها على عتبة البيت حين عودتها من لقائها الأول بكابلر. سفيتلانا ألولويفا، ذات السبعة عشر ربيعاً، ابنة ستالين، الذي كان ذكر اسمه كافياً ليغيب البعض عن وعيهم. لابد أن الأب كان قد عرف بمكان تواجد ابنته حتى قبل أن تصل إلى البيت بفضل "نعمة" الاستخبارات، وكان قد قرر ما يستحقه كابلر "الأزعر" من عقاب. كانت النتيجة أن أبعد المخرج السينمائي الشاب، صاحب فيلم "لينين في أكتوبر"، إلى أحد معسكرات سيبيريا بتهمة الاتصال بالأجانب وصار "عدوا للشعب". إلا انه، وبعد أن قضى المدة كاملة لم يتب، فعاود البحث عن طريقة للاتصال بمحبوبته ولو للحظة في محطة للقطارات، فحكم بخمسة أخرى انتهت بوفاة ستالين وإطلاق سراحه. تتحدث سفيتلانا من الشاشة الصغيرة، بعد كل هذه المدة، وقد مات حبيبها الأول سنة 1979، فيحس المشاهد بحرقتها الواضحة، بعد أن اعتبرها والدها "خائنة، خرجت عن طوعه"، فغدا يعاملها كغريبة حتى وفاته.جرصة وعقابأما سامية التي تماثل سفيتلانا عمراً لحظة لقائها الأول بحبيبها ، فقد كان من نصيبها أن تتعرف للمرة الأولى إلى طعم الشوبك بيد أمها المطاردة لها من غرفة إلى أخرى، وهي تردد سؤالها الوحيد "شو اسمه ابن الح؟". لكن سامية الهاربة من ضربة أخرى قد تصيب مقتلاً فيها لم تكن لتفصح عن اسمه، خاصة وهي تعرف تمام المعرفة عن الترتيبات التي تمت قبل خطبة أختها الكبرى. "تلك الفتاة التي لم تر يوما واحدا حلوا في حياتها، ثم ما لبثت أن قبلت بالعريس المنتظر الذي حملها معه إلى ما وراء المحيط"، كما تصف سامية اختها. تقول: "لو كان الأهل أبسط في معاملتهم بقليل، لما أخفيت شيئاً عنهم، ولكن، الله وكيلك، الصغير والكبير يريد أن يتدخل بتفاصيل حياتي، وكأنه مزاد علني". تشير إلى يدها النحيلة المربوطة كيفما اتفق من أثر الضربة، وتضيف: "عند حصول أي شيء، ولو كلمة بين شاب وفتاة فالحي كله يناقش المسألة وكأن الجميع معنيٌ بتفاصيل حياة أية فتاة هنا". تحاول أن تتناسى الرقابة الصارمة التي تعيش تحت وطأتها، ولكن كيف؟ فهي وبعد "الجرصة" التي أحدثتها الوالدة، غدت ممنوعة حتى أن تخرج إلى البلكون.جمانة تخطت سنتها السابعة عشرة بأشهر، قصتها لا تختلف إلا من حيث نوعية العقاب. فقد وشت بها أختها الصغرى في لحظة غضب إلى والدتها، التي "حملتها سخنة باردة إلى الوالد العائد متعبا من العمل"، ثم تقف الفتاة محاولة تقليد الأم الغاضبة : "شفت المضروبة شو عاملة، بنات آخر زمن؟؟". تقول وقد ضاعت عليها السنة الدراسية كعقاب على لقائها بـ"المحروس" أمام مدرستها: "لا أعرف، يجب أن يفهموا أننا نعيش في زمن آخر غير الزمن الذي عاشوا فيه.. فأمي التي حرمت من الدراسة بعد أن أجادت القراءة والحساب، كما كان سائداً حينها، أمي لا تفهمني". تعرف جمانة انه من الخطأ الوقوف في وجه الأهل، خاصة بالنسبة إلى فتاة لا حول لها ولا قوة. إلا أنها حاولت خلال تلك المدة التي زادت عن الستة أشهر الأخيرة العودة إلى المدرسة، ولكن الثمن الذي كان عليها أن تدفعه هو أن تقطع تلك العلاقة البريئة التي "اقترفتها" مع شاب "لم يؤمن حاله بعد، وليس جاهزا لتحمل المسؤولية"، كما هو رأي الأهل بنظرها.في البيت الكبير، وعلى الرغم من كونه والد الشاب الذي قام باختطاف الفتاة، التي "تحدث إليها لمرة يتيمة أمام الفرن". إلا أن الرجل ارتمى على الكنبة البنية وهو لا يدري كيفية التصرف في هكذا موقف. أتى والد الفتاة إليه وهو ثائر لا يلوي على شيء، وقف أبو سعد وهو يحاول من جديد تهدئة نسيبه "المستجد فجأة". اجتمع الحي بأسره في البيت وأمامه ولكن أحداً لم يتدخل لصالح الهاربين من الرقابة. لام الجيران أهل الشاب الذي لم يتجاوز العشرين على عدم "تربيتهم" له، وكذلك لاموا أهل الفتاة على عدم "مراقبتهم" لها، وذهب كل في سبيله. بعد أشهر، وبعد أن رضيت جميع الأطراف بالأمر الواقع، حتى رجل الدين الذي بدا عليه العبوس التام. صار بإمكان الفتاة أن تأتي إلى البيت في غياب الوالد للتكلم إلى والدتها، التي "لا تقدر على فعل شيء"، كما تدعي. فالوالد لا يمكنه أن يكسر كلمته أمام أهل الحي الذين اجتمعوا في لحظة غضب "اجتمعوا وما نفعوا، يا ليتهم ما اجتمعوا"، تقول لينا وهي تخفي دمعتها الهاربة من خط الكحل.الخطة "ب"سارة تتحدث عن قصتها التي انتهت على خير "الحمد لله". كل ما في الأمر أن واحدة من الجيران "الأوادم"، كانت قد رأتها مع خطيبها الحالي أمام محله، البعيد نسبياً عن البيت ولكن الفتاة كانت تقصده للتبضع، وللالتقاء بالشاب الذي أحبت منذ التقت عيناها بعينيه. أتت الجارة بالخبر إلى أم سارة التي عاملت ابنتها بحذر "كي لا تضيع من يدها"، أتتها بالملاطفة والكلام الجميل، ولكن الفتاة لم تقر بالمطلوب. تقول وهي تلعب بخصلة من شعرها المشقر: "فكان أن انتقلت الماما إلى الخطة "ب"، يعني الصراخ"، الصراخ لم يفد كذلك. ولكن الذي أفاد هو وجود خال للفتاة، هو "أقرب إلى الصديق منه إلى الخال"، كما تقول سارة عن أحمد الذي لا يكبرها إلا ببضعة شهور. تقول: "تحدثت إليه بصراحة وعرف أنني لم أقم بشيء غلط.. وان الجارة زادت بهارات على القصة، حتى إني لم أكن قد عرفت بعد بتفاصيل القصة التي حملتها الجارة إلى أمي، كل ما كنت قد عملته هو بعض الكلمات والنظرات والابتسامات وهي عملتني وحدة مش آدمية، الله يصطفل فيها". يبدو أن حظ سارة كان أوفر من حظوظ الأخريات لمجرد وجود شخص يمكنها أن تصارحه بما يعتمل في صدرها. فكان هو الذي وفر الجو المناسب حتى انتهت العلاقة على خير من اللقاءات الأولى بين الشاب والفتاة.
في السهرة على المصطبة الكبيرة، عند والد جمانة، وبعد أن تم توسيطي في المسألة لإعادتها إلى المدرسة ابتداء من العام الدراسي المقبل. فهمت انه لم يكن هناك أبسط حل هذه المسألة منذ البداية لو وجدت هذه الفتاة من تكلمه بصراحة. فالأهل على حق فيما يرونه بالنسبة إلى أولادهم، وذلك لخبرتهم بالحياة، وقد يكون أولادهم الشباب على حق في كثير مما يفعلونه، ولكن عدم وجود تواصل بينهم كان كافيا لإحداث كل تلك المشاكل. وافق الرجل الخمسيني على ما كانت قد كلفتني به إدارة المدرسة، لكنه عندما أخبرته بقصة سفيتلانا ألولويفا، التي ما إن توفى والدها حتى غيرت اسم عائلتها واختارت أن تحتفظ باسم عائلة أمها المتوفاة، وكذلك أخبرته بالعقاب الذي ناله كابلر على ذنب لم يقترفه.. نظر الرجل إلى البعيد، ثم ابتسم ابتسامة خفية وهمس : "قليل فيه ابن الحرام".

Comments