اعتذار برسم رجل .. لم أعتد على حبه



اعتذار برسم رجل .. لم أعتد على حبه
عماد الدين رائف
السفير 10/11/2004
قدّر لنا، أنا ومعظم أقراني، أن نكره ياسر عرفات. عودونا على ذلك، ولا أذكر أني كرهت شخصا آخر بهذا المقدار. شكلت الطريق الطويلة المتعرجة بين المتاريس وحواجز المنظمات المتناحرة تحديا يوميا لنا، وتناثرت صوره الملونة بالزي العسكري وكوفيته المميزة على أعمدة الكهرباء الخشبية وأكياس الرمل والجدران، وإلى جانبها صور طازجة لشهداء الحرب اليومية. عاش سكان المنطقة الشمعونيو الاتجاه نوعا من الخوف والحذر، وكان الأكبر سنا لا يملون من ترداد تعويذتهم <<أصلْ بلانا من الفلسطينيه، ما بيخلّصنا إلا الله وإسرائيل>>. وفجأة صارت الدبابات اليهودية على مشارف بيروت.. وبدأ الحصار. الرجل نفسه، أبو عمار، وقف أمامي وكوفيته أمامي مادا يده اليمنى بربطة خبز. تجمدت في مكاني أمام الفرن الصغير على عتبة مخيم برج البراجنة، نظر الرجل إلي وابتسم، أن خذ الربطة. بدا مفعما بحيوية القصف اليومي بين حرّ الفرن اللافح وحر تموز 1982. مددت يدي إلى خبز عزيز، ولم أستطع أن أحيد بناظري عن عينيه المتوقدتين، تراجعت وقد تجمهر الطابور المنتظر بين صارخ بالروح بالدم ومبايع. ثم أخرجوه من بيروت إلى غير رجعة.. وامتلأت جدران العاصمة بكلمة <<عائدون>> تزاحمها عبارة <<فتح ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح>>. أحسسنا بالهمِّ وقد انزاح عن قلوبنا، حتى أن تأثرنا بمجزرة صبرا وشاتيلا جاء مجاملة ودون مستوى الانفعال الحقيقي. الفلسطينيون محاصرون، ونحن نكره الرجل.. يأكلون القطط والحشائش، ونحن نكره الرجل. يفتي بعض رجال الدين بحرمة قتل أهل المخيم. يقصف المخيم بكل ما أوتينا من قوة ورباط خيل و ت 54، ونحن نكره الرجل. تقتل النسوة الفلسطينيات وهن يقطفن الخبيزة.. تنصب <<التنعش سبعة>> و<<الأربعتعش ونص>> على رؤوس أطفال المخيم.. يهرّب إليهم بعض تجار الحرب الخراف والحليب ويستلمون شنط الدولارات، ونحن نكره الرجل.. واحتفظنا بكرهنا الذي لم ينقص. وحل السلم الأهلي، والانصهار الوطني، وخدمنا علمنا، وانتخبنا المحدلة النزيهة.. ولم ينقص. الانتفاضة، أبو جهاد، أوسلو، مدريد، 13 أيلول، آذار، قانا، نيسان وتفاهمه، خروج اليهود إلا من مزارع شبعا، التي لم نكن قد سمعنا بها قبل ذاك ولم ينقص. وكلما سنحت الفرصة نعود إلى ترداد تعويذة كبارنا <<أصلْ بلانا>>. رجع عرفات إلى فلسطينه، أسس دولة لها علم يرفرف، أحبه شعبه وانتخبه بصدق يحسده عليه أباطرتنا من ذوي ال99,99 بالمائة أو بالإجماع، لا يمكننا أن ننكره.. لم يقتل الإسلاميين ليصير بطلا في عيون الأمريكان واليهود فيحصل على نوبل للسلام أو نوبل للأخلاق، لم يترك ترابه ليعيش كالملوك على ضفاف بحيرة ليمان أو في بارات أوروبا ومراقصها. عاش حصاره.. لم يفرق شعبه ويجعله لقيمات على موائد أسياد العالم الجدد، حارب بصدق، سالم بصدق.. دسّ له السم وأحرج الجميع بصدق. اليوم، من بين هذا الكمّ الهائل من الأنباء المتسارعة على شاشات القنوات الإخبارية يطل نبأ: <<عرفات بين الحياة والموت>>، وصورة للزعيم الفلسطيني تعود إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي ألصقت على جدار مستشفى للجيش الفرنسي، الرجل نفس الرجل بلباسه العسكري وكوفيته المميزة.. يحاول الحريصون على اقتسام إرثه أن يقتلوه قبل أن يموت.. فتقتله بروكسل، وشاشات إسرائيل والرئيس الأميركي المعاد انتخابه. ويضج العالم بانتظار ال21 طلقة. اليوم، أيقظني من سبات كرهي الرتيب سؤال غير متوقع، من صديق: هل لدينا في لبنان من نحزن على وداعه كعرفات بالنسبة للفلسطينيين؟ ربما، لن تسمح لي كمية الكره الكامنة في لا وعيي أن أحزن على عرفات.. لكني لو التقت عيناي بعينيه مجددا لاعتذرت له على كل هذه السنين التافهة البغيضة، بل ربما لدعوته إلى برنامج جورج قرداحي. أما عن كل من أعرف، ومن لا أعرف، من سياسيينا وزعمائنا وقادتنا، المتلاعبين بأعصابنا وأنفاسنا، فلو قضوا جميعا في لحظة واحدة.. فلن أحزن، ولن أنكس لفقدهم علما لا أملك ألوانه.

Comments