شباب متطوعون يضعون دماءهم على أكفهم

من الجنوب إلى البقاع والضاحية
شباب متطوعون يضعون دماءهم على أكفهم
عماد الدين رائف 07 سبتمبر 2006
إيلاف
تغص الغرفة الصغيرة في الشقة الأرضية بالشبان والفتيات الذين تداعوا إلى اجتماع صباحي للمتطوعين. يأخذ كل واحد منهم تعليمات واضحة من منسقة العمل التطوعي في برنامج الإغاثة، بترا المقداد، ثم يتوجهون إلى أحياء ومناطق النزوح والقصف في بيروت والضاحية. هكذا كان المشهد كل صباح من صباحات أيام التدمير المنظم على يد الآلة الحربية الإسرائيلية. آلاف من النازحين، آلاف من الهاربين من الأحياء غير الآمنة إلى مناطق يظنون أنها أكثر أمناً..
وفي المقابل عشرات من الشباب نذروا أنفسهم للعمل على التخفيف من آلام الهاربين من النيران. ما هي فلسفتهم، ماذا يفعلون الآن بعد أن سكتت المدافع وعاد النازحون إلى أنقاضهم؟ كيف ينظرون إلى التطوع في ظل التجاذب السياسي الطائفي في لبنان؟

تحت النار
كانت منال تضحك من فكرة أن تقصف الأم كا (طائرة الاستطلاع الإسرائيلية) سيارة المتطوعين الذين توجهوا إلى الضاحية الجنوبية بهدف إجلاء شابين من ذوي الإعاقات الذهنية الحادة من تحت أنقاض عيادة طبية. يقود علي بلال الفان الأخضر متجهاً في البداية إلى ساحة الغبيري، يرافقه محمد مروة، هيام بكر، أنور مروة. يضع الشباب خطة بديلة جدية هذه المرة، بعيداً عن ضحكة منال، "ما الذي سنفعله إن قصفنا؟". اقتضت الخطة ان يبقى حسان جمعة، 30 عاما، (لديه شلل أطفال منذ الصغر) على أهبة الاستعداد للانطلاق بسيارته البي أم الصغيرة لإنقاذهم. تنقضي الدقائق بطيئة في انتظار وصول المجموعة، في انتظار الوصول إلى العيادة شبه المهدمة، في انتظار إجلاء الشابين المعوقين، وفي انتظار عودة الفريق. ما هي إلا ساعات حتى تعود الطائرات الإسرائيلية لتغير على نفس المكان في الضاحية الجنوبية لبيروت محولة العيادة وجوارها إلى أنقاض.. يضحك الشباب مهنئين أنفسهم بالسلامة.
تضحك منال التي تجاوزت العشرين مجددا، تلومها ناهدة حميد على دخولها إلى الضاحية تحت القصف، لكن ناهدة نفسها كانت قد غامرت بنفسها قبل أيام، إذ انها توجهت إلى البقاع الأوسط لشراء مستلزمات طبية ومواد غذائية بعد أن شحت السوق، تقول: "كان لا بد لي من ذلك، إذ أن حياة كثيرين تتوقف على تقديم المساعدة لهم في ظل تلك الظروف القاسية التي مررنا بها". ركبت ناهدة إلى جانب ماهر زهر المتطوع الذي قاد شاحنته إلى بلدة قب الياس ومنها، في وقت كانت الطائرات الحربية تستهدف كل ما هو متحرك على الطريق... حتى الدراجات النارية.كل ما يمكن أن يستنتجه المرؤ من كلام هؤلاء الشباب الذين يجترحون المعجزات تحت النار انسجامهم مع بعضهم البعض، نحو تحقيق هدف كبير، وهو مساعدة الناس قدر استطاعتهم.كان كثيرون منهم قد جالوا بيروت سيراً على أقدامهم بحثاً عن نازحين يحتاجون إلى مساعدة عينية، ثم عادوا من جديد لتلبية هذه الحاجات.
عيد ميلاد على أضواء القنابل
كان الطفل إبراهيم كرنيب، 12 عاماً (لديه إعاقة ذهنية حادة ولوكيميا) قد وصل إلى مدينة صيدا نازحاً بصحبة عمته من أقصى الجنوب، من جحيم مارون الراس. تقول دلال (متطوعة في برنامج الإغاثة – فرع الجنوب في اتحاد المقعدين اللبنانيين): "عندما وصل إلى البلدية حاولت أن أحصل على سرير له في دار السلام، وهو مستشفى مخصص للعجزة في المدينة، يتكفل المركز بالمنامة والطبابة، أما الأدوية والمستلزمات الطبية والطعام فكان علينا أن نؤمنها نحن وفعلنا ذلك".
الأدوية البعيدة عن المدينة، إذ أنه ينبغي الحصول عليها من بلدة بعبدا في جبل لبنان، والتي لم يكن يمكن الوصول إليها إلا عبر طريق جبلية بعيداً عن الساحل المتعرض للقصف اليومي وتدمير الجسور، لم يثن هؤلاء الثلة من الشباب عن إيصال الدواء، تكفل بذلك ماهر أبي سمرا وعلي بلال. أما إبراهيم الصغير فقد كبرت ابتسامته يوم عيد ميلاده إذ اجتمع الشباب لديه في الغرفة بعد أن بحثوا جاهدين عن قالب حلوى بمناسبة عيد ميلاده، تضيف دلال: "كانت ليلة قاسية، وكنا متخوفين أن تقصف المدينة بعد أن سرت شائعات تأمرنا بإخلاء أحياء كاملة منها، أتينا بقالب الحلوى والبالونات وتوجهنا إلى دار السلام، محتفلين بعيد ميلاد إبراهيم على أضواء القنابل المضيئة بسبب انقطاع التيار الكهربائي بعد قصف المحطة التي تزود صيدا وجوارها من قبل الطائرات الحربية الإسرائيلية". قضى الشباب ساعتين في ضيافة الدار مصحوبتين بغناء المتطوعة أمل كعوش، بعد إطفاء شمعات القالب الاثنتي عشر.
العودة
قرب مطعم أبو ديب في مدينة صور وجد باسم ومجموعته "صامدون" مقراً متحركا لهم، كان يحاول أن يتناول شراباً باردا في حر الظهيرة وهو يتحدث عن الأيام الأولى للعودة، "قمنا بجولات ميدانية سريعة على القرى المدمرة حاملين معنا المواد الغذائية وبعض مقومات البقاء إلى الصامدين في قراهم والعائدين حديثا من النزوح". صامدون، كمجموعة من الشباب المتطوع بدأ عملها في بيروت معتمدة على تجمع كبير من جمعيات المجتمع المدني، كان عملهم منصباً على مراكز النزوح، وقد أخذت منهم حديقة الصنائع وقتاً وجهداً كبيرين، لا سيما وأنها كمركز للنزوح كانت غير مستقرة على صعيد تواجد النازحين أنفسهم كل يوم. أما اليوم، وبعد عودة النازحين، فقدموا ما كان بحوزتهم من المساعدات الطبية والعينية ناشطين بين القرى لرصد الحاجات ومحاولة تأمينها.
تأخذنا الجولة شرقاً وصعوداً إلى بلدة صريفا المنكوبة، هناك، من المستبعد أن يجد الناظر بيتاً غير متضرر. تكاد صريفا المتشحة بالسواد تتحدث بنفسها إلى زوارها عن ليالي القصف الطويلة. في البلدة تقع المتوسطة الرسمية وفي ضاحيتها تقف الثانوية ذات القرميد الأحمر الذي نالت منه مقاتلات العدو. يتجمع عدد من شباب الحركة الاجتماعية كمتطوعين نذروا أنفسهم للعمل على إعادة الثانوية إلى وضع شبه طبيعي يمكّن التلامذة من البدء بعامهم الدراسي في الوقت المقرر من قبل وزارة التربية، وما أن ينتهوا من هذه المدرسة سيعملون على إعادة تأهيل الثانية.
يجمع إيلي القرميد المتناثر على أرض الملعب الاسمنتي ليكومه إلى جانب الزجاج. يتحدث نزار عن سير العمل، يقول: "هدفنا ألا يكون هناك حجة مانعة من افتتاح المدرسة أمام التلاميذ في الوقت المحدد، إذ إن عدم افتتاح المدرسة قد يكرس النزوح لا سيما للأهل الذين يرتاد أطفالهم هاتين المدرستين، أما إن عادت المدرستان إلى فتح أبوابهما في الوقت المحدد وعاد التلامذة إليهما فلا بد ان يعود الهل إلى هذه المنطقة والا يفكروا في ترك بلدتهم والبلدات المجاورة كذلك". واجهت الفريق مشاكل مع الماء في البداية لكن الأهالي الصامدين ساعدوهم في العمل على إعادة تمديد المواسير إلى المدرسة.
بلا حدود
على طول الجنوب وعرضه، في البقاع الأوسط والشمالي والضاحية، في كل مكان التقيتهم كانت أعينهم تشع بوميض غريب. يعلنون عن انتمائهم للإنسان. بعيداً عن التجاذبات الطائفية والمناطقية للمساعدات القادمة من خلف البحار، بعيدا عن المزايدات الحزبية والانتخابية و"الرمضانية" في توزيع الحصص الغذائية والمواد العينية والفرش والمستلزمات الطبية.. يقفون في كل مكان جاهزين أن يمدوا يد المساعدة، متطوعون لهم فلسفتهم الخاصة "معاً نحو الحياة"، كما يقول عبد. لا تتبعهم الكاميرات في عملهم، ولا وسائل الإعلام على تنوعها وتنوع أغراضها، لا يهمهم ذلك، يعملون ليل نهار، ولا ينسون أنهم يحتاجون إلى راحة ما يوماً ما. جل ما يهمهم أن يلحظوا ابتسامة على وجوه الصامدين والعائدين.

Comments