السلام عيك يا مريم .. فهم لا يريدون السلام


السلام عليك يا مريم .. فهم لا يريدون السلام
عماد الدين رائف
تلك الصغيرة أعرفها. تجلس إلى حافة غير واضحة المعالم في هذه الساعة المتأخرة من بعد ظهر الضاحية الجنوبية لبيروت. تنظر بعينين متقدتين إلى نقطة ما في فضاء دمار هائل. حولت الغارات العشرين ، بدقيقة واحدة، مجمع الإمام الحسن في منطقة الرويس، إلى رماد وأكوام من الإسمنت وبقايا أثاث، وهياكل سيارات، وأشياء وأغراض تظهر بين الفينة والأخرى بين أيدي الباحثين عن جنى عمرهم. تحت المجمع، هناك إلى اليسار، مازالت تنام الجثث، ما زال الفريق المتخصص يبحث عنها، وما يزال الأمل موجوداً في العثور عليها.
مريم الصغيرة، سبع سنوات، وجدت لها مكاناً بعيداً مشرفا على المسرح الرهيب. حملت يمناها بقايا لعبة متدلية، جلست تنظر إلى نقطة واحدة فوق الدمار، تنظر إلى غرفتها، أو المكان الذي كانت غرفتها الصغيرة تأكل منه حيزاً. هناك نعم، في الطابق الرابع إلى اليمين قليلاً... يمتد خيط سحري بين عينيها وتلك النقطة، تعيد رسم المكان بنورهما.
كانت مريم قد تعودت أن تنحاز إلى زاوية سريرها مطمئنة إلى وجود طاولة تحمل لمبة زهرية يمكنها أن تضيئها بكبسة زر. على زاوية الطاولة تضع كوباً من الماء في حال استيقظت عطشى في الليل، كي لا تقطع الكاريدور الطويل نحو المطبخ على ضوء النواصة.
تشير مريم بنور أصبعها إلى الكاريدور الممتد من غرف النوم إلى المطبخ، ثم تعود إلى غرفتها مبتسمة مطمئنة على ألعابها المدلاة من الجدران المزركشة بألوان هي اختارتها.

أتركها قليلاً بعيدة عن الواقع المر، تنظر إلى الفراغ المحقون بغبار كثيف. الرجال والنساء، جموع من الأطفال والآليات تقطع المساحة المتبقية من الشارع. كل تلك الأشباح لا تجرؤ على قطع الخيط السحري الذي يصل بين عيني مريم وغرفتها هناك، حيث أشارت بسبابتها. "لماذا فعلوا ذلك؟ كلاب". هي أكبر شتيمة تعرفها. يختفي الخيط السحري، تختفي الغرفة والكاريدور.. الشقة، العمارة، الحي.. ليعود المشهد إلى واقعيته، آلاف من الكيلوغرامات من المواد المتفجرة حولت الحي بكامله إلى ركام ومسرح يعربد فيه الغبار. تجول الصغيرة بناظريها في المكان، "يريدوننا أن نلعب مع الأطفال اليهود على شاطئ البحر.. أنا سمعتهم يقولون ذلك، أنا أحب أن ألعب على الشاطئ.. لكن ليس مع اليهود.. كيف بدّي إلعب معهم وهم يريدون أن يقتلوني؟!".
أجبرت أيام النزوح الثلاثين مريم على سماع الأخبار والتحليلات السياسية، سمعت ما سمعت عن "حب الإسرائيليين للسلام"، عن ذلك الولع الذي يتحدث عنه كل المتفوهين الإسرائيليين الذين يحتلون الشاشات، حب السلام الذي صاحب وصول القنابل الذكية إلى إسرائيل من أمريكا عبربريطانيا. إحدى تلك القنابل الذكية أصابت غرفتها، مزقت صورها، دفترها الصغير، سريرها، صندوق ألعابها، ألوان جدرانها... كل ما تبقى لها من حياتها القصيرة يتدلى من يدها.. لعبة صغيرة فقدت رجلها اليسرى "حرام.. لولو صارت بدون رجل"، تضم لعبتها الرمادية المستنبشة من الجحيم، تضمها إلى صدرها بقوة كي لا تفقدها هي الأخرى.كانت قد لامت أباها الذي استطاع أن يمر على عجل بالبيت قبل أيام من تدميره، لامته إذ أنه لم يحمل لها غرفتها، عالمها الصغير الآمن معه، أن يأتي بها إلى المدرسة التي أوته وأسرته أيام النزوح.تلك الصغيرة أعرفها، أعرف كثيرات في مثل سنها، غدا لونهن لون الغبار، تحولن بين ركام منازلهن إلى لون التراب والرعب. من الصعب جداً أن تحول كل الأموال الأورو- أمريكية المرسلة عبر البحار إلى معالجبن نفسيين اجتماعيين بينهم وبين عدوهم. تلك أموال لن تجعل من إسرائيل إسرائيل صديقة. على الدولة المعتدية على حياة مريم وأترابها أن تنتظر أجيالا كاملة قبل أن تحلم بسلام ما وتطبيع ما. على حد قول مريم "هم لا يريدون السلام"... فالسلام عليك يا مريم ما داموا لا يريدون السلام.
ingowaee@hotmail.com

Comments