أمام البلنكو الجميم.. غروب بلا شروق

أمام البلنكو الحميم.. غروب بلا شروق
المستقبل - الخميس 29 حزيران 2006 - العدد 2309 -عماد الدين رائف
في مشهد قصير من فيلم "غروب وشروق" يتدلى شابان من السقف. السقف لا يظهر في مربع الصورة، أما هما فيتدليان برأسيهما إلى الأسفل. يمر بغرفة التعذيب ضابط الأمن وهو يبتسم للجلادين الذين يؤدون دورهم الطبيعي. تتحرك بنا الشاشة إلى الأمام، يمر بالمتدلي الأول ثم الثاني لتصل إلى وجه رشدي أباظة المتأثر المنتظر لدوره. كانت قد لفقت له تهمة ودبرت أدلتها الدامغة في مشهد سابق. لبسته تهمة انتمائه إلى جمعية مخربة لأمن البلاد المقدس، وقادته والمشاهدين إلى المشهد.الشابان المتدليان يبدوان بصحة جيدة، هما ممثلان أجادا تمثيل المشهد البسيط، مشهد به أو بدونه كان ليبقى الفيلم على مستواه. لكنهما أجادا الصراخ ومحاكاة الألم. هما لا يشبهانك يا سعيد. كانا يبدوان وكأنهما تعودا على التدلي بجسميهما الرياضيين الرشيقين، أما أنت فلا.. لم تكن كذلك.تعود بعد كل تلك السنوات لتقف في الغرفة نفسها التي استضافت صراخك وآلامك، كما استضافت غيرك. أناس كثيرون لا تعرف أسماءهم أو ملامح وجوههم الحقيقية. كل ما تعرفه عنهم أنهم كانوا في ريعان شبابهم، يتناوب الجلادون على رفعهم على البلنكو الواحد تلو الآخر. تعابير الوجوه لحظة يهوي السوط على الجلد المترهل واحدة. يمكن أن يتجمد ذلك التعبير على الوجه مرة وإلى الأبد. أنت الآن في الغرفة ـ المستودع، معصب العينين تتلقى جرعات متفاوتة من القوة والزمن والجلد. الرأس إلى الأسفل. كنت لتفخر بنفسك لو تم تعذيبك في أحد معتقلات الصهاينة الأعداء. فهم أعداء كما تردد، وبالتالي كانت ستتاح لك الفرصة لترفع رأسك يوماً وتدعي بطولات وهمية قادتك إلى البلنكو، قادت جلدك إلى ما هو عليه من تضاريس تشبه إلى حد بعيد طرقات مدينتك الحزينة على مئات الشبان الذين اختفوا ولما يعودوا بعد. ألا تذكر عندما قرأنا في كتاب معاً قصة ذلك المعتقل الذي قال للضابط الإسرائيلي في معتقل أنصار، بعد أن سأله الضابط عن سبب ضحكه.. قال عاطف: "أضحك لأن صباطي أعلى من رأسك". أما والحال كحالك، فأنت، ليس هم "الأعداء" من سبب لك كل المواجع، بل هم "الأشقاء"، فلك أن تصمت إلى أن تموت.. أو أن تموت.في مشهد الفيلم يرتئي المخرج أن تقترب الكاميرا من مجموعة من المنتظرين لدورهم إلى التعذيب. تقترب الكاميرا ببطء، يستعمل أهم تقنيات الإثارة السينمائية في سبعينيات القرن الماضي. أحد المنتظرين، أشبههم بك، يظهر وهو يستجدي الحراس ـ الجلادين، يستحلفهم بكل الأولياء والصالحين.. وبالله. قد يدعي الرجل المكتنز انه مضطر، أو مغرر به، أو... فما الذي ادعيته أنت؟ أتذكر؟ ثم من أنت ليستمع الجلاد إلى كلامك، كلام يشبه كلام كثيرين مروا تحت وطأة سوطه وهو غير مكترث ينفث دخان سجائره المهربة بانتظام في فضاء المستودع العفن. حوّله أسياده إلى إله يمناه جامدة على مسدسه المسلول الموجه إلى رأسك.. يمناه لا ترتجف كما أنت ترتجف الآن من ذكراه، عيناه مغارتان للخوف، أذناه مقفلتان، فكلامك غير مسموع. ليس لدى الرجل ما لم يسمعه من غيرك خلال تأديته لوظيفته الرهيبة، لم تأته بجديد.الغرفة التي تقف وسطها تقادمت جدرانها واسودت، طالتها كل عوامل الحت والتعرية والقصف. تشير إلى حلقات معدنية مازالت ثابته مكانها، مغروسة في السقف. تبحث حولك بحدز عن بقايا حبال وسلاسل معدنية. تبحث عن سياط وأحزمة زرداتها المعدنية تشبعت من دمك. لا يمكنك أن تبتسم كآخرين مروا بتجربتك الرهيبة وخرجوا سالمين. لا يمكنك أن تهنئ نفسك بالسلامة، أي سلامة هذه وأنت تعيش الحالة نفسها كلما تذكرتها. ها أنت تطل على عائلتك التي فقدت نصف طاقمها في انتظارك، لا أم تقبل يدها، لا أب ينتظر أخبار نجاحاتك وهفواتك.. لا نجاحات ولا هفوات على الطرق الغريبة، على محطات البنزين.. أو في الغرف الرخيصة الرطبة.رشدي أباظة، في غروبه وشروقه، يخرج من غرفة التعذيب. يرضى بالزواج من سعاد حسني مضطراً. ومن هو الذي لا يرضى بالزواج من سعاد حسني، ابنة الباشا؟ كابتن طيران قد الدنيا، من السرايا إلى المطار، ثم ما يلبث أن يلتحق بتلك الجمعية السرية المخربة. ألم يدفع ثمن جريمة لم يرتكبها بعد؟ أما أنت، فلا جمعية سرية أو علنية يمكنها أن تحتوي غضبك أو أن توظفه. الأحزاب والدكاكين التي استولت على أجساد مئات الشبان وسلمتهم إلى آخرين اختفت عن المشهد، بقيت صور الشبان تحتل مساحات من الورق في المناسبات، كثيرون لم يخرجوا من غرف التعذيب، لم ترسل جثثهم إلى ذويهم، صاروا عبئاً. صورهم غير المرغوب بها ترهق ابتسامات المستميتين على الكراسي، لم يعد أحد يسأل عنهم إلا "على الواطي"، كي لا يجرح آذان وحدتنا الوطنية الحساسة أكثر من اللزوم، تلك الوحدة الوطنية المحتاجة إلى جرعة كبيرة مضاد الهيستامين.

Comments