إلى الحج

في العشرين من عمرهم يحزمون أمتعتهم وحماستهم للذهاب إلى مكة
بعض من تفاصيل الآمال في الحج الأول إلى بيت الله الحرام
عماد الدين رائف04/01/2006السفير
<<لله على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا>>. آية قرآنية جعلت من السفر إلى مكة في وقت معين من السنة الهجرية، وأداء بعض الطقوس هناك واجباً دينياً على الفرد المسلم أن يؤديه مرة واحدة في العمر على الأقل. بهذه الكلمات يلخص سعد الذي لم يتخط عتبة العشرين سبب ضبضبته لمتاعه القليل على عجل، بعد أن زفّ إليه أبوه نبأ حصولهما على الفيزا المنتظرة. مكة، أو البيت الحرام، تهفو إليها قلوب المسلمين من كل أصقاع الدنيا في هذا الموسم، وفي كل موسم، فمن لم يستطع منهم الحصول على تأشيرة السفر الخاصة بموسم الحج، فله أن يتوجه إليها في أي وقت من أوقات السنة، ليؤدي مناسك شبيهة إلى حد بعيد بتلك الخاصة بالحج، لكن تحت عنوان <<العمرة>>. <<أما غير المسلمين فليس لهم دخول مكة، هي محرمة عليهم، يمكنهم أن يشاهدوها في هذه الأيام على شاشات التلفزيون>>، كما يقول بلال. لكن أخاه الأكبر يذكره أن <<السي أن أن>> ستنقل مناسك الحج هذا العام من مكة، فيجيبه، الحاج الشاب بثقة: <<لا يدخلها إلا مسلم>>. <<كان الحج يقتصر على كبار السن يقصدون مكة لغسل ذنوبهم، أما الآن فقد انتشر الوعي بين الشباب، وبالتالي عرف الجميع معنى وجوب الحج، وكما يقول الحديث: الحج هو الجهاد الأكبر>>. يبادر مازن شارحاً. لم يحصل مازن على التأشيرة لهذه السنة، لكنه سيحاول في العام القادم، كما يقول. سيراقب بحسرة على شاشة التلفزيون في محله لبيع اقرصة الموسيقى الممغنطة ملايين البشر وهم يطوفون حول الكعبة، المكان الأكثر قداسة عند المسلمين على وجه الأرض. فهو أمل أن يصحب والدته هذا العام، يقول: <<لا بد أن يذهب معها محرم، إذ انها لا تستطيع أن تتوجه وحدها إلى الحج إلا بشروط معينة>>. أما عند سؤاله عن معنى <<مُحْرَم>>، فيقول: <<يعني أن المرأة إن لم يصحبها زوجها، فلا بد أن يكون معها شخص ممن يحرم عليها الزواج به كأخ أو إبن أو عم وهكذا>>. فيكون الاستنتاج أن أم مازن لم تحصل على التأشيرة أيضا، يقول: <<أعتقد أن جميع الذين تقدموا هذا العام للحصول على التأشيرة قد حصلوا عليها فعلا، لكن أوراق الوالدة كانت ناقصة>>. <<حجّ يا حاج>> فيما يتحضر علي للتوجه إلى المطار حاملا في حقيبته الصغيرة بعض الأدوية وثياب الإحرام، وهي عبارة عن قطعتين من قماش أبيض سيستر بالأولى ما بين السرة والركبة، وسيلقي بالثانية فوق كتفه ساترا جزءا من صدره وظهره. تتحول المصطبة المودعة له بشبانها وشاباتها إلى خلية نحل. فقد خطط الأصدقاء لتزيين مدخل البيت والشرفة المطلة على الزاروب استعدادا منذ اللحظة لاستقبال الحاج، الذي لما يسافر بعد. أما عن نشاط علي المسافر في يوميه الأخيرين في بيروت، فيقول: <<اشتريت من بعض المحلات لوازم الحج، والأشياء التي يجب أن أهديها للناس بعد عودتي، سأحتفظ بها هنا بعيدا عن العيون، وعند عودتي لن يضرني أن أقول إنها من السعودية، لأنها فعلا من السعودية كما يؤكد البائعون>>، يخاف علي أن تفلت منه كذبة بيضاء كهذه حفاظا على حجته. عن ماهية هذه الأشياء؟ يجيب: <<عندما يصل الحاج من مكة ينتظره الأهل والأقارب والمهنئون، وينتظرون الهدايا البسيطة التي يتباركون بها نظرا لقدسية المكان التي يحملها الحاج منه، في السابق كان الحاج يأتي محملا بهذه الهدايا من مكة، أما اليوم فهنا في بيروت، محلات مخصصة لبيع السبّحات على أنواعها، سجادات الصلاة، عدادت الذكر، حتى مياه زمزم اشتريتها من هنا>>. عدّادت الذكر؟ تكرر التلفظ بهذه العبارة من أكثر من مسافر إلى مكة، هي البديل التكنولوجي للمسبحة، وهي عبارة عن ساعة إلكترونية ذات كبسة، كلما يذكر مستعملها دعاءً معينا يكبس كبسة، فيتصاعد الرقم الظاهر على شاشتها، وهكذا إلى أن يصل إلى رقم معين فتصدر الآلة صوتا ينبهه أنه أنهى المتوجب عليه. عبد الله في الرابعة والعشرين، يحج هذا العام للمرة الثانية، يقول: <<سبحان الله، إن توجهت إلى مكة مرة فلا بد أن يحن قلبك للعودة إليها في كل عام. السنة الماضية كنت أبكي وأنا أنظر إلى الحجيج، وهم على جبل الرحمة (جبل عرفات المطل على الكعبة) أبكي كالطفل الصغير، فلم أستطع أن أفوّت الحج هذا العام>>. يتكلم الشاب وهو ذابل العينين في حالة خشوع. أما صديقه الملازم له، عامر، فيقول: <<شو بدّك فيه، عاملّه شي عملة، ويريد أن يكفر عن ذنوبه>>. يوضح عامر أن الحاج إن تصرف تصرفا خارجا عن إطار الوقار فيجابه بقول الناس له: حِجّ يا حاج، أي ارجع إلى صوابك، <<وبالتالي يكون الشخص بعد عودته من مكة مغسول الذنوب كما ولدته أمه، فليس له أن يعود إلى المعصية أو الخطيئة مهما صغر حجمها، بل عليه أن يحافظ على نفسه نظيفا طاهرا>>. 13 سنة انتظارا سيتسنى لإيمان أخيرا أن تحظى بالحج والوقوف على باب الرسول، على حد قولها، فهي منذ كُلِّفت، وارتدت الزي الشرعي، أي منذ كانت في التاسعة من عمرها، تحلم بالحج وتراقب بانتظام حركة الناس حول الكعبة الشريفة على شاشة التلفاز كل يوم جمعة وفي أمسيات رمضان. هي اليوم في الثانية والعشرين من عمرها، تقول: منّ الله عليّ بزيارة الإمام الرضا (ثامن أئمة الشيعة) في مدينة مشهد الإيرانية، وكذلك فاطمة المعصومة، ابنة الإمام الكاظم (سابع أئمة الشيعة) في قم، أما اليوم ففرحتي لا توصف. يتورد خداها وهي تخفي دمعات الفرح عن صديقاتها اللواتي يغبطنها على هذه النعمة. يختلف زي المرأة عن زي الرجل في حالة الإحرام، و<<هي الحالة التي يجب أن يكون عليها الحاج في مكة أثناء تأديته للمناسك، فيحرم عليه أن يقص شعره أو أظافره، أو حتى أن يتعطر أو أن يقتل ذبابة حتى يفك إحرامه، بعد الانتهاء من المناسك المطلوبة. زي المرأة هو الزي الشرعي نفسه الذي ترتديه سميّة المتصدية للشرح، هي وصديقاتها، وليس عليها في الحج أن تبدله بقطعتين من القماش، كما يفعل الرجال. عقدت عائشة العزم على أن تأتي من مكة بغالون من مياه زمزم، وهي مياه تشفي من الأمراض على حد قولها، و<<يجب الإيمان بذلك كما يقول الحديث الشريف: زمزم لما شربت له>>. أما عن الجدوى من التعب، وبإمكانها أن تشتري الليتر بدولارين في بيروت، تقول: <<أريد أن أكون متأكدة أن المياه من هناك، فأنا سآتي بها إلى أخي المريض، وبعد الحج في مكة سأتوجه إلى المدينة وأسأل الرسول (ص) أن يبارك هذه المياه>>. اجتماع المصطبة بعد يومين على سفر علي إلى الحج، اجتمع الأصدقاء والصديقات مرة أخرى على الشرفة المصطبة، تطوع محمد لجمع الغلة في إيشارب حريري مزركش. كانت الحصيلة مئة وستة آلاف ليرة فقط لا غير، يقول محمد: <<لن يكفي هذا المبلغ للزينة والطعام>>. كان الشباب قد عقدوا العزم على أن يأتوا بذبيحة، أي أن يذبحوا خروفا على شرف الحاج القادم وبين رجليه عند وصوله، أما وقد تبددت الأحلام بسبب الظروف المادية الصعبة، تقول زينب: <<خلينا على الفراريج أحسن>>. المهم في الأمر أن يتوجه سالم بعد أيام إلى أحد المحلات التي تبيع لوازم الحاج ليأتي ببعض الكيلوغرامات من التمور الجيدة، أشرطة من النايلون الملون، سعف من النخيل، سلسلة من اللمبات المختلفة الألوان، وأهم من ذلك كله لوحة كبيرة مزينة بنخلة مرسومة، وعليها عبارة <<حج مبرور وسعي مشكور، أهلا وسهلا بحجاج بيت الله الحرام>>. وسيعمل الأصدقاء معا على تزيين الممر الطويل الذي يفصل البوابة الخارجية للمبنى عن مدخل البيت الأرضي، في انتظار قدوم الحاج من الديار المقدسة. ذلك الذي يظن الأصدقاء انه سيعود إنسانا آخر، لكن رولا تأمل ألا يتغير، فهي بمثابة خطيبة له، تأمل ألا يكف عن مغازلتها.

Comments