وقفت كارمن

أمام مدرستها
السفير 01/06/2005
عماد الدين رائف
أمام مدرستها وقفت كارمن.
أكتظ المدخل بأناس متوجسين ينظرون إلى بعضهم البعض بريبة ظاهرة. انتصف نهار بيروت الانتخابي أو يكاد. كانت فرق <<الهوبرجية>> قد احتلت أماكنها المعهودة. صف إلى اليمين تميز بابتسامات مصطنعة و<<يونيفورم>> جذاب، غلب عليه العنصر النسائي المسارع إلى اقتناص فرصة لاجتذاب الناخبين الذكور. كان التموين بالماء والسندويشات يصل بانتظام من الفان المتحرك بين أقلام الاقتراع، حتى أن بعض علب السجائر بدأت تتطاير من يد إلى يد على بعد المسافة بين الطريق الفرعي ومدخل المدرسة الرسمية. الأوراق الصغيرة التي تسودها أسماء المرشحين غدت تملأ أرض المكان لتدوسها الأرجل المسرعة نحو الداخل. دخل أحد المرشحين ليدلي بصوته، لنفسه طبعا، كان عطر مرافقته الطاغي قد تسرب إلى دماغ أحد باعة الكعك المتجولين فبدأ يغني بصوت حزين <<حلوين من يومنا والله... وقلوبنا كويسه>>.
على بعد أمتار كانت المذيعة التلفزيونية تحاول تحسين مظهرها قدر الامكان وهي تشتم مرافقا لها بالإنكليزية. أخطأت في اختيار ملابسها لهذا اليوم في الشارع، بدا هذا واضحا ولكنها عرفت ذلك متأخرة... ولا أسف. في انتظار أن يخرج المرشح، في انتظار العمل استلت سيجارة من حقيبة لها وأخذت نفسا عميقا. ابتعد المصور ليلتقط بعض ما يصلح لملحق إخباري. الصف الآخر من <<حملة الأوراق اللوائح>>، صف اليسار، خرج عن انضباطه وتبع أحد المسؤولين ليتلقى تعليمات صارمة وبعض الرزم الورقية. من فوق، كانت فتاة الإعلان تشد بشعرها الممتد على لوحتين إعلانيتين وهي تبتسم. خرج النائب الضامن فوزه، وخلفه حلقة من الناس يحملون صورته مطبوعة على قمصانهم البيضاء. رمت المذيعة بسيجارتها بين الأرجل واستدعت ابتسامتها.
كانت كارمن هناك. وقفت تنظر إلى المشهد غير المألوف أمام البوابة. كارمن. بنت الصف الثامن، كل ما تذكره عن الدورة السابقة... <<لا شيء>>. احتل أناس لم ترهم من قبل مدرستها، استباحوها باسم الديموقراطية، التي سيكون عليها أن تنتظر لسنوات ست طويلة قبل أن تذوق طعمها. <<منظرهم غلط>> أمام المدرسة وفي باحتها التي اعتادت على رؤيتها بطريقة واحدة لا تتغير. إنها المرة الأولى التي تتحول فيها المدرسة مركزا للاقتراع، ففي الدورة السابقة لم تكن قد أنشئت بعد.
صناديق معدنية داكنة، صناديق كرتونية حشرت فيها ظروف كبيرة وصغيرة، رجال في بذلات شبه رسمية بعضهم ألصق ما تبقى من شعره نصف دائرة مخفياً جلد رأسه اللامع، بعضهم بنظارات سميكة... نساء من ذوات النظرات الجدية كن يتنقلن بين هنا وهناك.
كلهم احتلوا مدرستها. حتى أولئك الذين في حوارهم الهادئ تراهم يتصايحون أمام البوابة وكأنهم في سوق خضار. لكن، لا بأس. أعجبها منظرهم. المراقبون الأجانب وغير الأجانب تنقلوا أمامها ولم يروها. حتى أن وزير الداخلية حضر ليضمن ديموقراطية النهار. وزير الداخلية لم يلحظها بنظرتها الحائرة. وحدهم بعض الشبان المسرعي الخطوات خروجاً من الشارع لاحظوا وجودها. أعطاها أحدهم منشورا يحمل معادلة غريبة نتيجتها صفر. نظرت الفتاة إلى المعادلة الغريبة عن الديموقراطية في بيروتها <<لم تدر كيف تكون نتيجة جمع عددين صحيحين صفرا>>، نظرت إلى اليافطة التي احتلت سماء الطريق، وابتسمت. <<نهار الغد سيكون عطلة مدرسية. سيكون مخصصا لفرز الأصوات>>، وبالتالي لن تكون مضطرة إلى الاستيقاظ باكرا. لن تكون مضطرة لحضور حصتي فيزياء مزعجتين. سيلغى شرح درس جديد في مادة الرياضيات، وبالتالي لن يدخل في أسئلة الامتحانات المنتظرة على الأبواب... لن يكون عليها أن تعيد شرح الدرس لنفسها أمام أستاذ الدروس الخصوصية. ارتاحت لهذه الفكرة. شملت المكان بناظريها من أدناه إلى أقصاه... ومضت

Comments