غريشا الأرمني وأركان التركي

غريشا الأرمني وأركان التركي
عماد الدين رائف
السفير 27/04/2005
من بين قضبان داكنة، يخرج رأس طفلة شقراء تصرخ <<لا للحرب>>. خلفها يمتد الأحمر بتدرجاته، يتحول سوادا بين كفيها الناعمين. تلك جدارية تحتل الحائط الوحيد الذي لم تغزه إطارات خشبية لصور مختلفة الألوان في غرفة <<غريشا>>. غريغوري أتيان، أو غريشا كما يدعوه أصدقاؤه، أولئك المتجددون دائما الذين يجمعهم في غرفته الكبيرة حين يسمح له وقته في شهر نيسان من كل عام. يجمعهم ليحيي ذكرى قد لا يعرف معظمهم عنها شيئا. يكون العشريني قد جهز كل شيء قبل وصولهم. الموسيقى التقليدية المنسابة بهدوء إلى الآذان بعيدا عن ضوضاء المدينة. بعناية تامة يرتب الإطارات الصغيرة لمجموعة صور خاصة جدا بهذه المناسبة على طاولة كبيرة أسندت ظهرها إلى الجدارية وأكلت حيزا منها. وأمام كل صورة يرتاح صحن فخاري صغير تنتصب في وسطه شمعة كنسية بلون عسل الربيع الشمالي. موعده اليوم مع المجموعة السابعة. مجموعة من المرحلة الثانية في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة روستوف على الدون. المدينة التي تنام مطمئنة على الضفة اليمنى للنهر الهادئ الذي خلده شولوخوف في روايته. كان لقاء غريشا بزميله أركان التركي القادم من أزقة <<الأستانة>> عدائيا اليوم. لم يكن الصراع على مكان أقرب إلى النافذة في الصف القديم أو على قلب فتاة مرحة، أو... كان أركان قد وقف في وسط الممر فجأة مانعا غريشا من المرور. وسرعان ما سمعت إحدى الكلمات التركية القليلة التي أعرفها. <<سكتير>> سمعتها للمرة الأولى بلفظها التركي الصحيح. مهلا. من أين أتت هذه الكلمة إلى ذاكرتي المحشوة بكلمات لا تنتمي إلى مجموعة التركية؟ أجل، إنها مما لملمه توفيق يوسف عواد في <<رغيفه>> ليعيد إحياء المشاهد الرهيبة للجوع الذي رافق الموت في بدايات القرن الماضي على ربى لبنان الذي خضع آنذاك للسلطة التركية. حفظ توفيق، الشهيد لاحقا، بعض الكلمات الأكثر تداولا ولم ينس أن يترجمها في جدول صغير احتل حيزا صغيرا من كتابه الأصفر الغلاف. لكن هذه الكلمة بالذات أغفل ترجمتها الحرفية إلى العربية البسيطة التي أفهمها. تركها تحت مفهوم الشتيمة الفضفاض. <<سكتير>>. لم يجب أتيان، على الرغم من معرفته الظاهرة بلغة <<عدوه>>. لم يجب بل تملص من المعتدي وتوجه إلى مكانه المعهود في الصف. بعد الظهر لم يترك غريشا زميله اللدود بلا دعوة، دعوة بسيطة إلى تلك الغرفة. اجتمعنا هناك. لبناني ومغربي بوليزاريو وجورجي وثلاثة من الزملاء الروس وأركان التركي. تركنا غريشا متعمدا، متحججا بخدمة جده المريض. تركنا أمام مجموعة من الصور في إطارات متنافرة الأحجام على طاولة تآكلت قشرتها الخشبية. رجانا قبل أن يغادر أن نحاول ترتيبها على رف فوق كنبته الكبيرة. كان يريدنا أن نتعرف بأنفسنا على تاريخ بلاده وأجداده من خلال الوجوه المسروقة من الأرشيفات والمجموعات الخاصة وكذلك من التواريخ التي لم تخل منها صورة. وحده أركان كان باردا ينظر إلى البعيد عبر النافذة رافضا المشاركة. المسافة غير البعيدة بين مركز المدينة ومكان إقامة غريشا لم يشعرني بأني تخطيت حدودها. لكني في عالم آخر. ناختشيفان. تلك البلدة القديمة التي بنيت على قطعة أرض قدمتها <<يكاتيرينا الثانية>> للأرمن النازحين من جور الأترك قبل المجزرة بزمن بعيد. سرعان ما احتضنت المدينة الشابة المتنامية تلك البلدة القديمة. صارت ناختشيفان جزءا من روستوف. حدودها تبدأ من ساحة كارل ماركس حيث ينتصب تمثاله <<البغيض>>. كلما مررت أمام ذلك التمثال يذكرني غريشا أنه أقيم على أنقاض تمثال ذهبي جعله الشعب الأرمني تحية تقدير لتلك المرأة العظيمة التي منحت أجداده أرضا ومأوى، أرضا تبعد مئات الكيلومترات شمال يريفان. والأرمن أوفياء. أوفياء لتك المرأة وللتاريخ، يجمعون الجهود والمال لإعادة التمثال إلى مكانه القديم. ناختشيفان التي تضمنا اليوم تحيي ذكرى مليون أو أكثر من أجداد أتيان قضوا في إحدى أبشع المجازر وحشية في القرن الماضي وأشدها إلتباسا. تسعون سنة مرت، مرت بطيئة مغيرة للخرائط السياسية ولم يعترف الظالم بظلمه. وغريشا لا يريد سوى اعتراف. لا يطلب مالا أو أرضا أو.. يكفي أن يقر التاريخ بظلمه لتلك الوجوه التي تنظر إلينا من الصور التي أعيد تجديدها واستنساخها مرات ومرات، ولم تترك صفرتها. بقيت الصفرة شاهدا لم يذكره أرتين مادويان من على متراسه الذي تهاوى شيئا فشيئا حتى اضمحل. لا تختلف ذكريات مادويان عن ذكريات جد غريشا الذي أفقده الزمن سمعه وبعض بصره، لكنه لم يفقد العزيمة. يشير بأصابع مرتجفة إلى صورة كان فيها طفلا تحمله امرأة غير أمه الشهيدة، وخلفهما مجموعة غير واضحة من البشر تهم بالنزوح إلى الشمال. نزوح قسري إلى أقارب أباعد لهم في هذا الحي الذي يضمنا الآن. بعد ساعة قضيناها في تلك الغرفة. فلفشنا التاريخ، تذمر من تذمر، وتحولت الأحاديث إلى باردة في انتظار غريشا. خرج أركان التركي من الغرفة ليدخن سيجارة. خرج من فضاء الذكريات الثقيلة التي لا يعرف عنها شيئا إلى فضاء روسيا التي تحمل ذكريات أخرى طازجة وأكثر حيوية. استقل أول حافلة ولم ينظر إلى الخلف. لم يقدر أن يعترف بشيء. هو لم يقتل أحدا. هو لا يعرف إن كان أحد من أجداده كان قد اقترف جريمة بحق أحد من أولئك الذين تعود على تجاهلهم. يمكنه أن يترك الأمور كما هي ولن يهتم. أما غريشا الذي كان يترقب من خلف الباب شبه الموصد أية مبادرة من قبل زميله اللدود، مسح دمعة تعود أن يذرفها في هذا الوقت من السنة. أشعل شمعاته واحدة تلو الأخرى. صلى صلاة خاصة ودعانا إلى العشاء. في الصباح التالي سيقدم أركان طلب نقله من المجموعة. وسيبقى الشابان زميلين يجمعهما عداء السنين.

Comments