أمام شاشة غاضبة

في غرفة عمال سوريين أمام شاشة غاضبة
السفير 23/02/2005
عماد الدين رائف
يحمل أحمد صينية كبيرة ازدحمت عليها كاسات زجاجية رقيقة وسكرية <<لمن يحبه زيادة>>. يلج من تحت البرداية الشرشف التي تحجب المطبخ الصغير المظلم عن عيون المجتمعين حول طاولة كبيرة. الجميع بانتظار حسن، أو الحجي كما يسمونه، الأخ الأكبر لستة من الحاضرين وابن العم الأكبر لبقيتهم. صمت يلف المكان. فالباب لم يفتح لأربعة أيام خلت. كان الترقب سيد الموقف، لم يخرج أحد منهم إلى عمله منذ اجتمعوا بعد ظهر الاثنين الماضي. يتهامسون فيما بينهم: <<مبارح بطريق الجديدة دمّوه للزلمه>>. <<سمعت شو صار بصيدا؟>>. <<مش بصيدا! بطرابلس. على الطريق العام>>. تحضر روزنامة تفاصيل الاعتداءات والإشاعات لترمي بثقلها على صدورهم. أحد زواريب صبرا، بعد صلاة الجمعة التي تلت اغتيال الحريري. في الزاوية اليسرى للبيت ينقل التلفاز صور تدفق جموع من الناس لزيارة الضريح المستحدث في ركن محمد الأمين. تتدفق الجموع بلا انقطاع. تنقسم الشاشة أحيانا لتنقل الحاضرين بالأسود والأبيض إلى داخل القصر. ينتقل التلفزيون إلى مجموعة من الشبان الغاضبين دائما: <<بدنا نقول الحقيقة.. سوريا ما بنطيقا>>. تهتز ساقا المتكلم من تحت الطاولة بعصبية واضحة. تهتز الكاسات المتراصة وهي لا تزال فوق الصينية النحاسية.. <<امسك أعصابك يا عبدو. صل على الحبيب>>. يخيم الصمت من جديد. يطرق الحجي الباب الحديدي طرقات معدودة. يظهر أحمد من خلف البرداية حاملا إبريقين متفاوتي الحجم. <<عظّم الله أجوركم>>. نظر الحجي إلى اللبناني الوحيد في الغرفة. التبس الأمر للحظة على هذا الأخير، <<أتراه قصد مصرع الحسين أم اغتيال الحريري؟>>. كان خطيب الجمعة قد حاول أن يطمئن جموع السوريين المتقاطرين إلى مسجده القريب. طمأنهم إلى أن <<الثوابت الوطنية والتعاليم الدينية لا يمكن أن تسمح لأبناء بيروت الإسلامية أن يتهجموا عليهم>>، ثم ما الدليل على أن جموع العمال من خضرجية وعربجية وبنائين وباعة متجولين.. <<لهم ضلع في موضوع خطير كهذا؟>>. طمأنهم إلى أن ما يجمع حمص وحماه وحلب والشام بأبناء بيروت هو أكبر من <<هذه الاتهامات السافرة غير المسؤولة التي يركب أمواجها بعض المتطلعين إلى مناصب زمنية ومآرب آنية>>.. <<لا أدري يا أخي ، لمَ لمْ أطمئن؟ أين سيكون هذا الشيخ إذا وقعت الواقعة؟>>. <<يا أخي أنا شخص أمّي>>، صدر الصوت من أقصى الغرفة. بدا أن المتكلم يبدأ حديثه بهذه العبارة أبداً.. <<لكنها واضحة، أليس من واجب رجال الدين، وخاصة البارزين، أن يأخذوا موقفا يهدئ من غضب هذه الجموع؟>> تململ المتكلم في مجلسه الذي لا يسمح له برؤية الشاشة بوضوح. <<ألم يحصل في السابق أن تهجم البعض على رجال دين غير مسلمين؟ ولكنهم كانوا عاقلين واحتووا الشارع>>. <<المشكلة أن الميكروفون دائما في يد قلة قليلة من الناس تحاول أن تستحوذ على الأجواء.. أما البقية الصامتة فلا تظهر على الشاشة.. أولئك الذين يعرفون حق المعرفة انه من الخطأ التهجم على إخوانهم.. التهجم على بعضنا البعض>> ينظر المتكلم ذو النظارتين إلى الشاشة <<اين هم؟ لعلها الصدمة ربطت ألسنتهم؟؟>>. أخذ يصب السائل الأسود المركز من الإبريق الصغير في الكاسات إلى نصفها أو أقل. كان الشاي قد أخذ كفايته من النار فاسودّ مصحوبا بسكر كثير. أبدى أحدهم رغبته بالخروج إلى العمل. أخذ يحشو حقيبته بأصناف من الثياب الداخلية المحمولة من مصانع حلب. <<صار لازم روح. لم أعد أقدر على البقاء هكذا بدون عمل>>. كانت الأيام السابقة قد أفرغت جيوبه من الأوراق النقدية، كل ما لديه هو ما في تلك الحقيبة. <<حجي زكاتك.. أجار طريق!>> كان يريد أن يستدين بعض المال للفان. سأله الرجل عن وجهته <<شويفات؟ شو فدائي؟>>.<<لا يوجد نقود>>. بخل عليه الحجي بالمال خوفا على الصغير الذي لم تنبت لحيته. <<اذهب إلى الضاحية مشيا على قدميك>>. خرج الصغير حاملا أثقاله. <<الضاحية أرحم. الضاحية أرحم>>. تردد صوته في الغرفة طاغيا على الهتافات الخارجة من التلفزيون. كأنه أمر. أمر إلى كل من في الغرفة. بدا أن الوجوه المتعبة تحت الإنارة الضعيفة قد فهمت كل أبعاد هذا الأمر الصادر عن المتعلم الوحيد بينهم. كانت الشائعات تصل من بعض المارة تساعدها شاشة لا تهدأ. أناس فقراء غاضبون صاروا يشكلون خطرا على أناس فقراء آخرين لا حول لهم ولا قوة إلا بالله. بالأمس لم يكن أحد ليتصور ما حدث. المصاب كبير والفقيد كبير بحجم البلد. لكن <<أسيبقى هذا البلد إلى الأبد على كف عفريت أو عفاريت؟>>. ثم أي عفريت هو الذي يستحمل أن يبقى مثل هذا البلد على يده كل هذه المدة؟ أخذ الماء الحار يتدفق من الإبريق الكبير فوق الكاسات. ماء حار نقي. ما إن لامس كثافة الشاي تحته حتى بدأ السواد يتطاول على نقاء الماء يحوله إلى حمرة شمس تغيب. <<اشرب يا شيخ، والله دمعه>>. تطاولت الأيادي إلى الكاسات الزجاجية الرقيقة. بدأ البخار يتصاعد من الأفواه، سرعان ما عاد النقاء إلى الكاسات بعد تمازج السائلين.. <<تماما مثل القلوب>>.

Comments