ملف الحقوق السياسية للأشخاص المعوقين في لبنان

صعوبات في الوصول وانتهاكات بالجملة

ناخبون معوقون أمام المراكز والأقلام والصناديق

وجد الناخبون المعوقون من يمد لهم يد المساعدة في كثير من المناطق اللبنانية لإتمام عملية اقتراع سليمة قدر الإمكان، فمع انتشار متطوعي حملة حقي في مناطق كثيرة، ومع وفاء المجالس البلدية والمحافظين بتوفير متطوعين، استطاع كثير من الأشخاص المعوقين الوصول إلى مراكز الاقتراع وأقلامها.. لكن تلك الجهود لم تستطع تغطية مساحة الوطن، وفي ظل ندرة التجهيز الهندسي الملائم، كيف اقترع الأشخاص المعوقون في انتخابات 2009؟

وقف محمد أمام درج طويل يقوده إلى الصندوق المنتظر على الطابق الثالث في متوسطة الوردانية الرسمية، هنا اقترع في انتخابات 2005 النيابية، وفي الانتخابات البلدية والاختيارية التي تلتها، هناك أحس بالفعل بأن حقوقه كشخص معوق "مسحت بالأرض"، على باب القلم، رئيس القلم "عم يبيض وجّ"، يصرخ: "هيدا أول واحد لازم ينتخب، وله الأولوية". وراء العازل "بطانية ثلاثة أرباع الكرسي المتحرك تبقى خارجها، ويدخل خلفها المندوبون كذلك". لكن كيف وصل؟

هو ما يزال على الطابق الأرضي ينتظر لساعتين طويلتين من يحمله من بين زحام المندوبين والمقترعين الآخرين إلى قلم اقتراعه. "حرام فوتوه، خليه يمرق"، يحاول أحد المقترعين غير المعوقين أن يعبر بمحمد المتململ على كرسيه المتحرك، وأن يأخذ به طريقاً مختصراً تضمن للمرشح غير المعوق كذلك فرصة استغلاله لشخص معوق كي يدخل إلى القلم بسرعة، متخطياً طابور المنتخبين. يحمله متطوعو إحدى الماكينات الانتخابية "متل الغزلان"، ليذكرهم بعد انتهائه من الاقتراع فلا يجدهم، "المهم أخذوا صوتي.. شو بعد بدهم؟". "بتصير تفتش ع مين بدو يشيلك، نلطعت بالمدرسة شي ساعتين الله وكيلك". هكذا كان الحال في الأعوام السابقة، واليوم بعد انتخابه في 2009، ما الذي تغير؟ "لا شيء! لم يتغير شيء على مستوى التجهيز الهندسي، سوى أن العازل أفضل وقد ارتحت لاستعماله".

منحدرات وكثافة مقترعين

تقف رشا حائرة من أمرها أمام كثافة الوافدين من المقترعين غير المعوقين على مركز الاقتراع الكائن في مدرسة الحكمة في محلة الأشرفية في بيروت، فيما في الخارج تحرق شمس حزيران وجوه متطوعي حملة حقي الذين منعتهم القوى الأمنية المولجة حفظ الأمن من الدخول إلى حرم المركز، إذ لم يصلها تعميم وزارة الداخلية بالسماح للمتطوعين غير المزودين بالتراخيص اللازمة من دخول مراكز الاقتراع على كافة الأراضي اللبنانية لمساعدة الناخبين المعوقين على إتمام عملية اقتراع دامجة. يقف ضابط ويصرخ في المتطوعين الواقفين على الجانب الغربي من الشارع، "بعد دقيقتين ما بد يشوف حدا هون"، يبتسم الشباب فهم يحتاجون إلى أكثر من دقيقتين لتحركوا على كراسيهم المدولبة وأجهزة الولكر.. يجمد الضابط مكانه، وهو ينظر إلى ساعته، ينتظر الثواني الـ 120 لتمر، فيبدو الأمر أكثر جدية وحزم.. يتحرك المتطوعون صاغرين باتجاه تقاطع كنيسة مار متر ليقفوا قرب آلية الجيش موزعين المواد التوعوية على لناخبين القادمين.

رشا الوحيدة التي تحمل تصريحاً، تدخل وتخرج، وفي كل مرة تجد أن عدداً كبيراً من الناخبين يسدون مدخل المدرسة، ويقفون على المنحدر الخشبي الطويل غير مبالين به، بل معظمهم لا يعرف لماذا ترتاح هذه الخشبة الطويلة فوق الدرج، وتقف عائقاً إمام حركتهم!

تحاول رشا إبعادهم عن المنحدر بدون جدوى، تشرح لكل واحد منهم على حدة أهمية هذا المنحدر، تزودهم بالمطبوعات التي يوزعها المتطوعون في الخارج، تنجح في إبعادهم للحظات.. سرعان ما تتلاصق الأقدام فوق المنحدر من جديد. تحاول مرات ومرات، تمر ساعتان، وعليها أن تغادر إلى مركز آخر. تستعين برجل الأمن الذي ينبغي لها أن تعيد الكرة معه وتفهمه ماهية هذا المنحدر الخشبي، قبل أن تطلب منه إبعاد الناخبين غير المعوقين عنه.. لكن ما الذي يمكن أن يفعله رجل الأمن؟ فهو بالكاد يمكنه أن يراقب الوافدين. تعود رشا أدراجها للترك المنحدر لمصيره.

داخل القلم

في بلدتها البقاعية شمسطار، اقترعت جنى للمرة الأولى، فلم تكن قد تجاوزت السن القانونية عام 2005، وقفت أمام مدرسة البلدة المتوسطة، فاعترضتها أدراج طويلة بدون حواف، ساعدها متطوعو حملة حقي في الوصول إلى الطابق الأول حيث قلم الاقتراع الذي تسبقه حافة كبيرة، ارتقتها بصعوبة مصرّة على عدم المساعدة. في قلم الاقتراع بادرها رئيس القلم: "إذا بدك ما تفوتي ورا العازل، وما تتعذبي، حطيها للورقة"، أصرت الفتاة على استعمال العازل، وأتمت عملية اقتراعها. في طريق عودتها إلى باحة المدرسة انتظرت المتطوعين لمساعدتها من جديد. أما وليد الذي اقترع في مدرسة الباشورة في بيروت فقد اضطر إلى تذكير رئيس القلم ومساعديه بالقانون، وحقه "المقدس" بالتواجد وراء العازل، بادره رئيس القلم: "ليش إنت قرأت القانون؟". انزعج وليد كثيراً فمثل هذه الأمور لا ينبغي أن تحدث، ناهيك عن معاناته الكبيرة في وصوله إلى قلم الاقتراع محمولاً على كرسيه المتحرك.

على كراس بلاستيكية

داخل مركز عمر الزعني، في ملعب المدرسة الواسع، يقف المقترعون جماعات جماعات. كل واحد أو واحدة منهم يخبر حكاية انتخابه البطولية. تقترب سيدة في العقد الرابع من العمر، تبحث عن مراقب لتخبره شكواها. تقول :"داخل قلم الاقتراع سحب مساعد رئيس القلم اللائحة من يد سيدة وأعطاها ورقة بيضاء وقال لها اكتبي عليها اسمك. وفعلاً أخذت المرأة المعوقة المسنة الورقة البيضاء وكتبت اسمها فأخذ الورقة ووضعها في مظروف ورمى به في الصندوق". تقترب ابتسام، لديها إعاقة ذهنية، تقول مرافقة لها إن بعض النسوة على باب قلم الاقتراع المزدحم قد هاجموها، تحمل ابتسام جسر أسنانها المركب الذي انكسر نتيجة التزاحم بيدها، وهي تنظر حائرة إلى من تشكو؟ على مقربة منا يحمل عنصرا شرطة كرسيا بلاستيكياً جلست عليه امرأة مسنة، يدخلها الدركيان المبنى ويولجانها مع الكرسي في المصعد، بعد أن يضغط أحدهما على زر الطابق المطلوب. يتكرر المشهد من جديد بعد عشر دقائق، وفي نصف ساعة من الزمن يكون أربعة من الأشخاص المعوقين قد حملوا على كراس بلاستيكية بيضاء. في الخارج، وعلى بعد حوالي مئة متر من المصعد، تتوقف سيارات تقلهم، يحملهم متطوعون إلى باب المركز بعد أن يتموضعوا على الكرسي البلاستيكي، ومن باب المركز حتى المصعد يحملهم الدرك. على الطابق الثاني يفتح باب المصعد على طابور طويل.. تنتظر "الحاجة" دورها بصبر، كعشرات من النساء الذين سبقنها إلى الانتظار أمام ذلك الباب.


التحقيق الفائز بجائزة الصحافة الاستقصائية المرتبة الثالثة في فئة الصحافة المكتوبة، عمان 17 فبراير 2010.

المصدر: مجلة "واو" العدد الثامن عشر، ملف الحقوق السياسية للأشخاص المعوقين في لبنان


Comments