أين أنت؟

تضيق المساحات. يحتلها الخطاب المذهبي. نقيس الكلمات بالحروف، والمسافات بالميلليمترات. نسير بحذر على حدّ السكين بين التفاهات. «لا مكان للحياد، سلبياً كان أم إيجابياً». رسالة يومية مكررة، متلفزة مسموعة مكتوبة إلكترونية، من منابر الطوائف. يبتلعها العامل، والطالب، والمزارع، والمدرّس.. ســـــائق التاكسي، وصاحب فرن المناقيـــش، والمتريض على الكورنيش... يبتعلها ثم يجترها. خطاب معلوك، هو نفسه. لا جديد فيه ولا مزيد.
تضيق المساحات. وطرفا النزاع لا حاجة فعلية لديهما لأي إنتاج فكري. يطل الساسة ومستشاروهم، ورجال دينهم، من على منابرهم المذهبية بلا وجه أو لغة. لا حاجة عندهم للبحث، أو التحقيق والتدقيق، أو حتى الابتكار. مفـــــرداتهم ومفــــردات أي محازب متعصب لهــــم هي هي.
أتَذْكرُ حين كان على رجل الدين أن يقرأ شيئاً.. أن يتثقف قليلاً قبل إطلالة تلفزيونية، أو نقاش ساخن مفتوح؟ أتذكرُ حين كنتَ تحتلُ المساحات الفاصلة بين الطوائف والمذاهب والملل؟ كنتَ تفرضُ على أتباعها جميعاً رهبة انتقاء المفردات، من جلسة مسائية على مقعد خشبي في ضيعة منسية على أطراف الوطن، إلى مجلس النواب. تميزك وانحيازك إلى الفقراء والمقهورين كان يرعبهم.
أولادك المنتشرون في معظم قرى لبنان ودساكره أرهقهم انتظارك. بلعت الطوائف منهم من بلعت.
أما الباقون على حبّ الناس، والذوبان في قضاياهم، فلم يزعزهم شيء. لكن لا ملجأ يلوذون به. يدفعون ضريبة المكان والزمان. ضريبة تصنيفهم بلا إذن منهم، من هذا وذاك، لمجرد سكنهم في منطقة الآخر. يدفعون ضريبة خانة «المذهب» على إخراج القيد، بالرغم من محاولاتهم لشطبه.. خانة «الشهرة»، وخانة «محل ورقم القيد»...
يا أنتَ نحنُ.. «أكتر من أيَّا زمان.. هيدا زمانك».. أين أنت؟
عماد الدين رائف

Comments