رعايا

أتسمر أمام الشاشة الصغيرة لساعات. لا طعام، أو شراب، أو تدخين. أتمنى لو شاشتي أكبر، كانت لتظهر الطوفان البشري بشكل أبهى. من ميدان التحرير، إلى «رابعة العدوية»، والاتحادية، إلى المحلة، والإسكندرية.. فاض النيل بشراً فرحين بكسر القيد. سيُتهمون بالعمالة، وربما بالكفر.
لكن الجماهير خرجت. الصوت واحد، والهدف واحد. رفض القهر. للآخر «جمهوره» كذلك، لكني مع هذه الجماهير، مع رفض القهر، مع «الجوع الكافر». لحظة ويظهر وجهه بين الحشود. أشعر بالحياة تدب في أوصالي. أعودُ بالذاكرة إلى بيت الطفولة. كان تمثاله النصفي يزين الصالون.. جمال عبد الناصر. 
أخرج من بيتي صباحاً. أعبرُ أراضي ديكتاتوريات الطوائف. أهرب بتفكيري، خلال العبور البطيء، إلى صورة رجل يحمل وجه عبد الناصر بين الحشود. فقير كسر قيده، وصرخ بأعلى صوته «لا للقهر». 
لكن قبل ذاك. ألجُ من زاروب المنزل إلى الشارع، أنظر إلى يميني. حائط صمد لعشرات السنين. كتبت عليه عبارة «يعيش جمال عبد». أما «الناصر» فاختفت تحت قشور طلاء قديم. 
فكرت أكثر من مئة مرة في أن أقف للحظة. أن أرفع هاتفي الخلوي وأصوّر الحائط. لم أجرؤ. أعرف جيداً أنني ما ان أرفع الهاتف لأصور، سيُخلق أمامي فتى على دراجة.. الفتى يعرفني جيداً، وكذلك كلُّ من في الحيّ.. هنا ولدتُ، وتربيتُ.. وتزوجتُ وأنجبتُ وهرمت.. لكنه وأقرانه سيمنعون بحزم «كل ما يمسُّ أمنهم». سيقتادونني. سينبشون ما يمكنهم نبشه من تحت جلدي وأعصابي «بلباقة، ولطف، وبكل أدب». 
لن أمنحهم تلك اللذة. سأحتفظ في ذاكرتي بما أريد. سأعبر بين ديكتاتورياتهم كما أريد. وسأحتفظ بالقهر. فهنا لا جماهير تفيض.. بل رعايا مبرمجون.
عماد الدين رائف

Comments