"مائدة مقدسة"

تقول أمي: «تعا تعشى عنا.. ما رح يطلع انفجار». الجزء الثاني من العبارة يأتي خفيضاً مشوباً بارتجاجات في صوتها. يأتي كصلاة. أتخيل الطريق قبل الوصول إلى البيت.
أتخيل الحواجز الأمنية و«التفتيش الدقيق» عن لوحات سيارات «معمّمة». أتخيل آلاف الأمهات كأمي، وهنَّ ينتظرن أبناءهن. كثيرون منهم خرجوا ولم يعودوا.
أتخيل الانتحاري وهو يودع أمه، ليتناول الطعام على «مائدة مقدسة». أليس لديه أم؟ ألا تدعوه أمه إلى عشائها أيضاً؟
في الليل تخلو الطرق من المارة. تضمّ الأبنية ساكنيها أكثر فأكثر. وعلى الزوايا يقف شبان مزودون بأجهزة اتصال لاسلكية. لا يتحركون إلا إذا اشتبهوا بشيء. الكل مضبوب في المنزل.
جملة وحيدة تضغط على أعصابي «أشرفلك تموت ببيتك». تعيدني إلى مشهد طفل يعصر رجليه المطويتين بذراعيه مسنداً ظهره إلى جدار رطب، في ليالي القصف المجنون بين «الشرقية» و«الغربية». ينتظر صوت الانفجار التالي.
«طول عمرنا عايشين هيك. انفجار أو قصف عشوائي. شو الفرق؟». استردّ عادة سيئة قديمة، ظننت أني قد تخلصت منها. كنت آنذاك على يقين، في لاوعيي، أن إغماض عيني بقوة كفيل بأن يخرجني من كل ما هو حولي، لألج إلى عالم داخلي أكثر هدوءاً. أنتظر الصوت المريع. يبلغ الكزّ على الأسنان حدّ الألم. وتضيء الأجفان بحلقات من تدرجات النور، تتلاعب بأعصاب البصر. وبعد الدويّ يعود كل شيء إلى حال انتظار لدويّ آخر.
في البيت، أمس، كما في بيوت كثيرة حولنا. تجمع الأم أولادها إلى مائدة لم تستمد قدسيتها من الموت وأدواته.
نحلمُ بغد لا «موائد مقدسة» فيه. وننعم بلحظات حياة نستحقها.
عماد الدين رائف

Comments