فجر العيد

«قم نغسل قبر جدك». عبارة كانت أم محسن توقظني بها فجر كل عيد. أحملُ الإبريق البلاستيكي، وأقطع كرم العين خلفها إلى «التُّربة». تتأبطُ الحاجة الخمسينية العيزقان والبخور، وتتهادى نزولاً على الكرّوسة الإسمنتية، المقطّعة مربعاتٍ صغيرة. عن يميننا يمتد الصبّار يسيّجُ الحقول.
في العتمة، تتجه جدتي إلى القبر، تنظفه من الأعشاب.. تهيّئه لاستقبال الماء. أتابع انحداري نحو عين الضيعة. أملأ الإبريق مرات ومرات، وهي تليّف الضريح وشاهده، ثم تهرق المياه على أبيات من الشعر تزين رخامة، وتؤرخ للرحيل.
أنتهي من نقل المياه.. أقفُ، أتفرّسُ في كلمات الشاعر عباس الحرقوصي، وهو يرثي زميلاً شاركه المنابر، وخذلته الحياة. أحاول أن أفكك الحروف المحفورة.
تعبق رائحة البخور في المقبرة. تنهرني جدتي.. أن ابتعِد. أقف في وحشة الأضرحة التي تنتظر من يغسلها. وهي تختلي برخامة القبر، تضمها، حتى طلوع الصباح. تعاتب صاحبها الذي رحل، وتركها غريبة مع ثلاثة عشر ولداً تحت سقف لم يكتمل. تذرف دمعة، وتناديني. بكل حركة من حركاتها.. بكل همسة كانت تحفر في ذاكرتي مدى فداحة فقدان زوج شاب.
مع أشعة الشمس يزحف ناس الضيعة إلى الجبانة. يتجمع أفراد كل عائلة عند ضريح لهم. على القبور تستريح صواني المعمول البيتي. تعتقني جدتي، أتجول بين القبور. أضع راحة كفي على الرخامات، وأتمتم، ثم آخذ معمولة أضمها إلى كيس ورقي.
اليوم قلّ زائرو «التربة».. اختفت الكرّوسة والعين، وصُوِّنت الجبانة، وازدحمت بأضرحة «شهداء».. وتضمحل قيمة فقدان الشباب، كلما يغدو الموت سهلاً، ويومياً.. وعادياً.
عماد الدين رائف

Comments