شجرتا الماما

أطلب من صديقي أن يمرّ بي في «شارع الماما». ذلك بعدما قرأتُ عن «حواجز إسمنتية تقطع الطريق، وأعمدة حديدية تزرع في الزفْت، وفكّ أرصفة.. وتغيير وجهة السير».
هو مكان هجرتُه.. كنت أريد أن أرجع إلى فيءٍ ضمَّ ذكرياتِ سنوات قرب شجرتين على حافة بورة. «شجرتا الماما» منحتا المكان سحراً.
البيارتة يعرفون أن الشارع القديم، أخذ اسمه من الأم ماريا تشيركاسوفا، التي منحت أولاد فقراء المدينة ربع قرن من حياتها. وكانوا يسمونها «الماما».
تشيركاسوفا، نبيلة من نوفوغورود، حملت تجربتها في التربية عبر العالم. فبعد قيامها بفتح مدارس لأولاد الفلاحين في بورتوفيتشك، توجهت إلى اليابان لتمضي ثلاث سنوات. وفي طريق عودتها إلى روسيا بحراً، زارت الأراضي المقدسة. وهناك تحولت حياتها جذرياً، وقادتها مسيرتها إلى بيروت، التي أحبتها، ولم تقوَ على مغادرتها.
بعد سنتين على وصولها في العام 1885، افتتحت أولى مدارسها الخمس. وكان منزلها ومكان عملها، إحدى المحطات المرغوبة للحجاج الروس نحو بيت المقدس. كتبوا عن زياراتهم اليها، وعن تفانيها في التعليم. ومع الحرب العظمى، أُقفلت مدارسها، وداهمتها الشرطة، وغادرت المعلمات «بموجب الحق الممنوح بمغادرة السلطنة».. لكن «الماما» بقيت.
شجرتان معمرتان أزيلتا.. منحتا كثيرين ظلاً وأملاً.. اختفتا وغزا موضعهما الإسمنت. كانتا من الشواهد على عراقة المكان.. على أنه ليس طارئاً في بلد المتغيرات السريعة. لكنهما لن تكونا أفضل حالاً من تشيركاسوفا نفسها، التي لا يوجد ما يشير إليها في شارع حفظ اسمها.
لا قيمة للذاكرة.. فالمكان تداس معالمه بأقدام السطوة والجشع.
عماد الدين رائف

Comments