في وداع محمود

والدك يجثو على ركبتيه فوق تراب رطب، ثم يسندُ رأسَه بكفّ يده. ينظر إلى فوّهة القبر التي تنتظرك «سلملّي ع جدّك». صرخةٌ مجروحة، تشقُّ طريقها إلى الآذان.. لم تخالطها صلواتٌ وآيات ترتطم بالأضرحة المبعثرة بين صنوبرات قليلة في «الشهيدين». والدتك بين المتشحات بالسواد لا تصدق رحيلك.. أحناها الفراق، تتمتمُ بما تبقى لها من صوت «محمود راح».
والداك ربياني يا محمود كما ربيا أخوتك الخمسة، وبينهم صديقي الأعتق جهاد، وأولادك قاسم وبسام وفرح.
بنظراته الصامتة الصادقة كان أبو محمد بزّي يُقلّم ما يشذّ من تصرفاتنا.. بحنانها وطيبتها تغمرنا أم محمد، لنعبرَ الطفولة نحو الشباب. وأنت كنتَ تكبرنا بسنوات. تنظرُ إلينا نحن الصغار من بعيد.. من خلف همومك المتكاثرة وفنجان قهوة ودخان سيجارة. وكانت تتسرب إلى آذاننا ألحانُ أغانٍ وكلمات مسرحيات، وأحلام نفهم بعضها، ونؤجل فهم ما نستغربه منها إلى حين.
من مشهد وداعك يسلبُني تذكُّر المسير نحو بيت أهلك. وربما لأن الحرب كانت مشتعلة، لم نكن نعرف غيره. تقودنا الطريق من التحويطة إلى شارع إدة في الصفير حيث فرحة اللقاء. نمشي حتى مفرق مسجد بئر العبد، وننحرف شرقاً، لتنفتح خضرة البساتين أمامنا. من بستان إلى آخر عبر دروب ترابية متعرجة، بعضها مغطى بشوادر تحجبنا عن القناصة.. إلى أن نصل إلى بقعة ضمّت جزءاً من تفتُّحِ وعينا على الحياة.
رحيلك يخنقني بالدموع، وأنا أحاول أن أضمَّ والديك وابنيك فتخونني يداي.. أبحثُ عن الصديق الأعتق.. أرسمُ وجهَه في وجوه أحبته.. وأودُّ لو تساند كتفانا في هذا المشهد الأيلولي الحزين.
عماد الدين رائف

Comments