خنق بيروت

لربع قرن خلا، كنتُ أتعجبُ كيف ترك حيتان المال للبيارتة تلك الفسحة الصغيرة من الشاطئ.. كيف لم يلتهموا الرملة البيضاء؟ وأتى اليوم الذي زال فيه العجب. ليتبين أنهم يتحضرون للإجهاز على المتنفس الأخير لسكان العاصمة. ليخنقوها ويخنقونا.
ما تسرّب من معلومات، يفيد بأن شركتين اشترتا الرملة البيضاء، وستقيمان سوراً حولها. لكن كيف غدت تلك الرمال.. وزبد موج البحر، والأفق المتصل بشمس المغيب، ملكاً لشركتين عقاريتين؟
من الذي سمح بخصخصة ذكرياتنا وذكريات آبائنا، ومنح ملكيتها إلى الغيلان؟ ألم يخبرنا المشرعون أنهم صنّفوا الشواطئ الرملية كجزء من الأملاك العامّة الوطنية؟ أم أن «العامة» و«الوطنية» مفهومان مطاطيان؟
لعلهم يريدون لنا أن ندفع مبالغ مالية لنطل من جديد على ذاكرتنا.. فهل علينا أن نودّع شاطئنا الرملي الوحيد، الذي بات مسبحاً عاماً منذ ثلاثين عاماً؟
تلك الفسحة تضخ بعض الهواء في رئة العاصمة.. نحن أبناء الحرب، كنا نقف أطفالاً على الرملة نراقب نيوجيرسي وهي تصب حممها، أو نراقب سباق السيارات والدراجات النارية على الجانب الآخر من الطريق بحماسة كبيرة.. وإن تعبنا نتكئ على أحد الإكسبرسات، أو نركض ليحتضننا البحر. أما الذين سبقونا فقد شكلت لهم تلك الفسحة متنزههم في «أربعة أيوب» و«سيبانة رمضان»، وعيدي الفطر والأضحى.. كانوا يهبطون إليها من أحياء بيروت.. يصلون إلى تلة الخياط ثم ينحدرون نحو زرقة المتوسط.
لا يحق لأحد أن يعتدي على ذاكرتنا الجماعية، أن يحاصرها بتصوينة أو يرفع حولها سوراً.. حتى لو تسلح بورقة مختومة.
عماد الدين رائف

Comments