من بيروت إلى جنكيز أيتماتوف.. وعنها

يقول جنكيز أيتماتوف: "زرت لبنان للمرّة الأولى وأنا مسرور باللقاءات التي أجريتها في هذا البلد الرائع الجمال المضياف، والتي ترجمناها وستظهر قريبًا جدًا". زيارة أيتماتوف إلى بيروت رافقت حدثًا كبيرًا انتظرته العاصمة اللبنانية ربيع العام 1967، حيث عُقد فيها بين الخامس والعشرين والثلاثين من آذار/ مارس، المؤتمر الثالث للكتاب الإفريقيين والآسيويين (رابطة كتّاب إفريقيا وآسيا)، وذلك في قاعة فندق انترناسيونال، برئاسة الزعيم الوطني اللبناني كمال جنبلاط، حيث شارك في المؤتمر نحو مئتي كاتب وأديب من مختلف دول القارتين. وأتت مشاركة أيتماتوف ضمن وفد الاتحاد السوفياتي، الذي رأسه سرفار عظيموف، وشارك إلى جانبه خمسة عشر كاتبًا وشاعرًا يمثلون الجمهوريات السوفياتية الآسيوية. وقد تأثّر جنكيز أيتماتوف بتلك الزيارة، يضيف: "تركتُ في بيروت كثيرًا من الأصدقاء، من كتاب لبنانيين وغيرهم من الأدباء العرب. كما أقمت اتصالات وديّة.. وقد أصبح أدونيس، الشاعر اللبناني الشاب، صديقًا حميمًا لي. وقد أحببته وأحببت شعره".

الفنّان ومهماته

هي بيروت إذن التي احتضنت كل هؤلاء الأدباء والكتّاب على عتبة النكسة التي جرّت خلفها الويلات على العرب، وقد حمل المؤتمر توصيات عديدة لعل أهمّها بالنسبة إلينا الآن تبني إصدار مجلة "لوتوس"، أما التوصيات فبمعظمها سياسية تحمل سمات تلك المرحلة من نضال الشعوب للتحرر من الاستعمار، حيث تناولت التوصيات نضال الشعبين الفيتنامي والفلسطيني، والوحدة العربية المنشودة، وقرارات بشأن نضال شعوب شبه الجزيرة العربية والبحرين وقبرص والكاميرون وموريشيوس وعُمان، والمستعمرات البرتغالية وجنوب اليمن المحتل وجنوب غرب إفريقيا والسودان، واليوبيل الذهبي لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى... ومن الجدير التوقف عند قرار بشأن مناهضة التغلغل الاستعماري والاستعماري الجديد في الميادين الثقافية. وذلك ما عبّر عنه أيتماتوف ضمن أجواء المؤتمر، محدِّدًا مهمّة الفنان، يقول: "المهمّة الرئيسة لكل فنّان معاصر، شريف، هي أن يُسهم بكل جهوده في نضال الشعوب ضد الإمبريالية والاستعمار". كما أقرّ المؤتمر توصية لبنان حيث أكّد "تأييده لحريّة الفكر والتعبير والتزام الكاتب لضميره وإنسانيّته، ويشجب كل أعمال الإرهاب الفكري والقيد على حريّة الكاتب ويحيي كل المناضلين الأحرار من الكتّاب في نضالهم من أجل حريّة شعوبهم".. وفق أدبيات ذلك العهد. وقد تكون المصطلحات قد تغيّرت أو تطوّرت اليوم، بعد نصف قرن من الزمن، إلا أن تغيّرها لم يغيّر من الواقع، فما زال النضال نضالًا يوميًّا، ولا يزال الفنّ فنًا، فإن صبّ في خدمة الشعوب كان شريفًا، وإلّا فكما هي الحال اليوم في معظم أصقاع الدّنيا، وما أكثر الأمثلة!
في كلمته الطويلة، التي حملت عنوان "قضايا التحرّر الوطني في الأدب السوفياتي"، عرّج رئيس الوفد السوفياتي على أعمال ممثلي الجمهوريات السوفياتية الآسيوية، متحدّثا باسم أدباء آذربيجان وأرمينيا وجورجيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وتركمانيا وأوزبكستان بالإضافة إلى روسيا الاتحادية. ومن ضمن تلك الأعمال كتابات وأشعار جنكيز أيتماتوف، التي تخطت حدود فرونزي (بشكيك حاليًا) وموسكو، إلى الاتحاد السوفياتي كلّه ثم إلى العالم. كان جنكيز أيتماتوف آنذاك في التاسعة والثلاثين من عمره.

جواهر الجعبة

الطفل الذي نشأ يتيم الأب، بعدما اعتبر النظام الستاليني توركول (والد جنكيز ) "عدوًا للشعب" وأعتقله في موسكو في العام 1937، ثم اقتاده إلى فرونزي وأعدمه رميًا بالرصاص في العام 1938.. وبعد سنوات طفولته في موسكو مع والديه بين العامين 1935 و1937، عاد جنكيز الذي لم يتجاوز السنوات العشر إلى قرغيزيا مع والدته ناغيما خازييفنا، التي اعتبرت زوجه عدوّ الشعب.. وأيّ مصير كان أسوأ من ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي! ثم أتت الحرب الوطنية العظمى (التسمية السوفياتية للحرب العالمية الثانية بين العامين 1941 و1945)، فعمل جنكيز وتابع دراسته في اختصاصات لا تتعلق بالآداب، حتى نشر قصصه الأولى بالقرغيزية والروسية سنة 1952 في عدد من الدوريات. وانعطف نحو الآداب طالبًا مستمعًا للمقررات الأدبية العالية في موسكو بين العامين 1956 و1958، ثم نشر في العام الأخير قصته الأولى "وجهًا لوجه" المترجمة إلى الروسية في مجلة "أكتيابر" المسكوبية، ونشر كذلك قصصًا له في مجلة "نوفي مير" (العالم الجديد)، وفي العام نفسه أبصرت قصّته "جميلة" النور، فحملته إلى الشهرة في الأوساط الأدبية السوفياتية، فمارس العمل الأدبيّ على أسس مهنيّة. وعمل بين العامين 1959 و1965 رئيس تحرير مجلة "قرغيزستان الأدبية"، ومراسلًا لجريدة "برافدا" بنسختها القرغيزية في الوقت عينه. وحين حلّ جنكيز أيتماتوف في بيروت ربيع العام 1967، كان في جعبته، بالإضافة إلى "جميلة"، عددًا من جواهر قصصه، ومنها "المعلم الأول"، و"شجيرتي في منديل أحمر"، و"أرض الأمّ"، و"وداعًا غولساري". وكان قد ترك بصمة لن تمحى في الأدب العالمي.  

من بيروت وعنها

إلى جانب أيتماتوف، كان في عداد الوفد السوفياتي إلى بيروت الأديب الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف (1923-2003)، فإذا كانت تقارير اللقاءات والمناقشات الأدبية، وحتى الصداقات الناشئة بين الشعراء والكتّاب قد ضمّتها المجلات الأدبية السميكة الصادرة بالروسيّة، أو مجلة "لوتوس" الصادرة عن "رابطة كتّاب إفريقيا وآسيا"، إلا أنّ نصًا واحدًا فريدًا عن ربيع 1967 في بيروت كُتب باللغة الآفارية، حكى عن صداقة متينة بين جنكيز أيتماتوف ورسول حمزاتوف من جهة، وعن تفاصيل الحياة في بيروت خارج جدران فندق "انترناسيونال" الذي استضاف المؤتمر. عن حياة بيروت وتنوعها وغناها المبهر لشاب سوفياتي... نبض بيروت قبل النكسة. صاغ رسول حمزاتوف قصيدته رباعيات بلغته الآفارية، وعلى الرغم من أنّها حملت عنوان "إلى جنكيز أيتماتوف من بيروت"، إلا أنّ أيتماتوف نفسه انتظر الكاتب السوفياتي ياكوف أبراموفيتش كوزلوفسكي طويلًا ليترجمها إلى الروسيّة، فيستعيد مع صديقه ذكرياتهما معًا في "باريس الشرق" التي كانتها بيروت. 

يقول حمزاتوف بعد تغيّر بيروت واغتيال كمال جنبلاط مخاطبًا صديقه: 

أتذكُرُ يا جنكيز يوم استضافتنا بيروت معًا، 
كيف سرى من البحر والسماء 
ضوءٌ أزرقُ باهتٌ،
والشوارعُ جذبتنا إليها؟
**
وهبَتنا المدينةُ حضنًا رحبًا هادئًا
متألقًا بجماله ليلَ نهار
كانت تعتبر باريس الشّرق
وأنا شخصيًّا كنت مؤمنًا بذلك
**
تزاحمتِ أعلام الدّول في مينائها 
وعلى الشاطئ ازدحم السيّاح والباعةُ،
وهل سننسى النساء، بأثوابهن المزركشة
من قبائل شتّى، يتبخترن كحوريّات؟
**
وذاك، عربيُّ البادية المتجه إلى الكازينو،
حملته سيّارة فاخرة من الفندق، 
ومدّ يده بباقة زهر إليهنّ من الشبّاك:
أنا سعادتُك يا سيّدتي، يا سنيورا
**
هنا حيث الأبنية تحمل إعلانات ضخمة
مضيئة مذهّبة من الأرض إلى السطوح،
توحي بأنّ المدينة كلّها تخضع لها
لسيطرة الحرف والخدمات والتجارة
**
"اشتري، يا سيّدتي، هذا السوار النادر
فسعره رائع جدًا ومناسب"
"رفضُك لشرائه كرصاصة في قلبي،
سأفّض السعر، كما تشائين".
**
هنا، لم يقتحمْ أحدٌ المنازل مهدّدًا
هنا، تهزُّ أشعّة القمر مهود الأطفال
لن أنسى تلك الليلة التي قضيناها
في النادي الأرمني وسهرنا معًا
**
وأحدُهم، خلف الطاولة صاحَ: فلنغنّ!
وبعدذاك فاض صوته بسخاء
وغنّى الأرمن عن شيء ما يعنيهم
لكنّ الفرحة فاضت عنهم فشملتنا
**
أتذكرُ لبنانيًّا بصليبٍ على صدره
في الحانة خلف المشروبات النّارية
يجلس مع مسلمٍ محمّديّ
وكلاهما متألقٌ بفرح صادق؟
**
وحدّثانا بلهجتهما الواحدة 
عن بلدهما اللطيف الفريد
ووصلت على آذاننا تناوبات أصوات
جرسُ كنيسة ونداءات ومؤذّن
**
"أتذكُرُ يا جنكيز!"، صرختُ غير مرّة
مستحضرًا لبنان الذي كان
عندما وصلنا إلى بيت جنبلاط 
وعلى شرفنا ذبح الخراف
**
وغطّت قمم الجبال ثلوجٌ فضّية
وكانت سفوحها مسالمة آمنة
وكان الأمنُ ممسوكًا، كثورٍ من قرنيه،
في دولةٍ رأس حكومتها كرامي
**
لكنّ نجمًا خبا في الظلام، 
واستمرّت تلك اللحظة القاسية أبدًا
اغتيل جنبلاط – صديقنا – 
ولم تعد بيروت كما كانت
**
حيث كان اليهود والعرب 
يحيّون بعضهم البعض – سلامًا بسلام
ولمْ يلجأوا إلى السلاح والنّار
بل عاشوا وتجاوروا.. لكن ذلك اختفى
**
هنا، حيث يُغطي السوادُ وضوح النهار
وعبر قعقةٍ أسمعُ صوتًا فلسطينيًا
يسألني عنك: "قل ليْ
هل أتى أيتماتوف معك؟". 
**
"لم يستطعْ هذه المرّة – أجبته – 
هو يكتب الآن على ضفاف إيسك -كول".
وفجأة أرى فتاة شائبة في مقتبل العمر
تركض بين زخات الرصاص
**
هنا حيث يخرج الدخان من شقوق الجدران
الحربُ تُغنّي بصوت خفيض،
مذهولةً بحزن جارف
تهزّ مهود أولادها القتلى
**
فوق كل سطرٍ سأعلّق حزني
هنا، حيث كنّا معًا 
وفي قلبي اليوم يا جنكيز
أحملُ حُصّتَك من الألم
**
من الرابحُ هنا – قلْ لي وحلّلْ
أي إرادة شيطانيّة حلّت
ليتبادل لبنانيان النار
أحدهما بصليبٍ وآخر بعمامة؟
**
يتسابقون إلى المعركة عند الإشارة
وكلّهم في العناد سواء، 
ينسون أن محمّدًا بجّل المسيح، 
وكذلك لم يرفضه إبراهيم.
**
وإذا ما اخترقت صدري رصاصةٌ هنا
وكان جرحها قاتلًا
أنا أعلمُ، يا جنكيز، أنّ الطريق ستقودك
على الفور إلى عاصمة لبنان
**
أتعرفُ، لقد رأيتُ بيروت الشاهدة
في الأمس في منامي غير مقسّمة، 
والأولاد، كلّ الأولاد تحت قوس قزح
يتعانقون معًا.

Comments