زهرة وحمامة في موسكو 1957

"روسيا"، تلك الكلمة السحرية التي لطالما سمعتُها في طفولتي تخرج من بين شفتي والدي، رحمه الله، مصحوبة بالكثير من الشوق. ما إن يلتقطها من نشرة اخبارية حتى يستعيد نتف ذكرياته مع رفاقه في ربوع الاتحاد السوفياتي، حين استضافت موسكو "المهرجان العالمي السادس للشباب والطلاب" صيف العام 1957.  كان أكثر حنينه إلى الناس. انطلق مع رفاقه من بيروت إلى مرفأ اللاذقية حيث استقبلتهم الباخرة "غروزيا" التي استقبلت على متنها وفود مصر وفلسطين والسودان والعراق وسوريا كذلك، ثم انطلقت بهم إلى أوديسا التي فُرشت ممرات مرفأها بالزهور، وزحف أهلها جميعهم ليستقبلوا الوافدين من كل بقاع الدنيا هاتفين باسم "الصداقة والسلام". وبعد أوديسا، كان السفر إلى كييف ثم موسكو. كان لتلك الصور المتناثرة المحفورة عميقاً في الذاكرة امتنانٌ خالص للشعب السوفياتي. 
تركتْ تلك الذكريات صورًا ضبابية متفرقة لديّ، لكن أجزاءها اكتملت وضبابها تبدّد حين شرعتُ في إعداد برنامج "حديث روسيا"، في إذاعة "صوت الشعب" قبل ثماني سنوات، وكنت في سباق أسبوعي مع الزمن لاختيار مواضيع الحلقات. ومن محاسن ذلك، عملية البحث المستمرة عن كلّ ما كان قد كتب عن شعوب الاتحاد السوفياتي في أبواب الثقافة المتفرقة. ولعل أغلى ما وقفت عليه نسخة قديمة أوراقها مصفرّة، غير مقصوصة الملازم، من كتاب "زهرة وحمامة في موسكو"، الذي يحتوي على توثيق رحلة الوفود العربية إلى ذلك المهرجان الشبابي، وهو بقلم الفنان التشكيلي اللبناني ناظم إيراني، الذي سحرته موسكو، فرجع إليها طالباً في العام 1959، ثم كان في عداد الرعيل الأول لـ "جمعية متخرجي جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي في لبنان"، وعضو هيئتها التأسيسية سنة 1970. 
الكتاب الصادر في شباط 1958، قدّم له النائب الدكتور هاشم الحسيني، الذي كان في عداد الوفد اللبناني المشارك في المهرجان وكان من أصدقاء الاتحاد السوفياتي. جاء الكتاب خالياً من الصور البلاغية والتكلّف الأدبي، مشهدياً صادقاً، وكأن كاتبه يسابق ذاكرته، فيحاول ألا ينسى شيئاً مما رآه أو سمعه خلال بضعة عشر يوماً قضاها مع رفاقه بين أناس حمل عشقهم معه إلى آخر يوم في حياته. 
أهدى الكاتب كتابه "إلى الذين استقبلونا بالدموع والبسمات والعناق البريء.. إلى فناني موسكو من موسيقيين وراقصين ورسامين ونحاتين.. إلى الذين يخدمون بفنونهم السلام والشعوب..". كما عرّف القارئ بـ"اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي"، وانطلق في سرده وقائع الرحلة بدءًا من ميناء اللاذقية، متوقفًا عند كلّ ما رآه مناسبًا لدحض الصورة النمطية المعتمة التي كان يوصم بها الاتحاد السوفياتي في لبنان. ولعل انبهاره مع رفاقه بحفاوة الاستقبال وطيبة الشعب السوفياتي غدت تتدفق على صفحات الكتاب غزلا ورقّة. 
المشهد الأكثر جمالا تجسد في افتتاح المهرجان السادس للشبيبة والطلاب وهو يقف بين مئة وخمسين ألف مشارك، كل منهم يحمل علم بلاده يرفرف به، ويشدو بلغته "نحن الشباب/ نلوي الصعاب/ ونبهج الأيام/ آمالنا المقبلات/ حشدتنا/ لنبني الحياة/ إنّ الشبابَ/ يلوي الصعابَ/ ويبهج الأيام/ ينشر السلم/ شباب كالأسود". 


Comments