أولغا ليمانسكي: عندما تنبضُ الألوانُ شعراً

أسّست الفنانة أولغا ليمانسكي عالمها الخاص في الرسم التشكيلي. عالمٌ عكس رؤيتها التعبيرية لما يحيط بها من أفراد وأحداث، تاركة وراءها أثراً زاهي الألوان في مسيرة فنون الرسم اللبناني الحديث. فإلى جانب عملها على رسم البورتريهات، وخاصة وجوه الأطفال، رسمت القرى والطبيعة الجبلية والزهور والحدائق بألوان زيتية ومائية، مجسّدة عبر عشرات اللوحات الأماكن والناس. وكان لها، مع بوريس نوفيكوف (1888-1966)، تأثير كبير في مسار حركة الفن اللبناني الحديث، حيث أوجدت بريشتها لغة تعبيرية، أغنت الانطباعية الحديثة، وميزتها بمواصفات غنائية مغرقة في الشاعرية.
ولدت أولغا بوريسوفنا ليمانسكاي في مدينة مالو أرخانغلسك الروسية سنة 1903، في أسرة موظف حكومي. انتقلت عائلتها إلى العاصمة سان بطرسبورغ في العام 1908، قبل أن تنزح إلى مدينة كييف إثر الثورة البلشفية. في العاصمة الأوكرانية قضت ثلاثة أعوام، ومع اشتداد وطأة الحرب الأهلية نزحت العائلة إلى استنابول عبر ميناء سيفاستوبل. قضت ليمانسكي على ضفاف البوسفور سنتين، ثم انتقلت على متن الباخرة "تروفور" إلى بيروت، ومنها نحو دمشق، قبل أن تعود إلى بيروت أستاذة للفنون الجميلة.  
تنتمي ليمانسكي إلى جيل الرائدات في الفن التشكيلي، فقد صاغت، سمة الهويّة اللبنانيّة المميّزة بالأرز الخالد، وعكست نكهة روائح البخور وأنسام أطايب عبق الأرز والرّيحان، كما يرى الباحث حسين أحمد سليم. 
ورفدت ليمانسكي مع بنات جيلها من الفنانات، المجتمع الذي عشن فيه، بمعالم من لمسات فنّيّة إبداعيّة. فقد اقتحمت فلك الخَلق والإبداع والابتكار بالتّجريب في رحاب المحترفات، وراحت تُمسّد شعيرات الرّيشة الفنّيّة بدفء حرارة أناملها، عازفة موسقاها الأنثويّة على أوتار منظومة الألوان، وهي تشكّل وتُنمنم عناصر اللوحات زيتاً وماءً وفحماً. 
انعكس إبداع أولغا في إخراج الفرح من عناصر اللوحات. وهي عشقت المدينة، فجالت بريشتها في الأزقة وعلى الأرصفة وفي واجهات المحال التجارية، كما في لوحة الأكواريل الرائعة الموقعة في العام 1986، التي تصوّر "جادة الإفرنسيين" (من مجموعة سمير مبارك)، والتي كان بإمكان متذوقي الفنون الوقوف أمامها لأيام في "قصر سرسق"  مطلع العام الحالي.
وتؤرخ الباحثة الروسية اللبنانية تاتيانا كوفاشيفا - بحر لمسيرة ليمانسكي، التي انتهت بوفاتها ودفنها في بيروت سنة 1988. فقد نظمت أولغا أول معارضها الخاصة سنة 1962، ثم تتالت معارضها بين فرنسا ولبنان في صالات وقاعات ثقافية ومتاحف مختلفة واستمرت هذه الفترة من حياتها نحو عقد من الزمن، انتهت مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975. وفي العام 2003، نظمت "الجامعة الأميركية في بيروت" معرضاً خاصاً ضمّ مجموعة من أعمال ليمانسكي، إحياءً لذكرى مرور قرن على ولادتها في روسيا. 
ومن يحظَ بتذوّق لوحات أولغا تتجسدْ أمامه الحياة في الألوان، أو كما عبر الباحث عمران القيسي وهو يتلمس سمات "العلامة المثيرة في الفنّ الروسي الحديث"، متوقفاً عند ليمانسكي، مستعيناً بمقولة الحسين بن منصور الحلاج: هي معاني الحقيقة.. وأدقُّ من ذلك، هي فهمُ الفهم بإخفاء الوهم.

المصدر: عماد الدين رائف، المجموعة الاستراتيجية. 

Comments