ثلاثة أيام في كييف 2015

اليوم، ومع نفاد الطبعة الأولى من كتاب "1897 – قصص بيروتية"، أتذكر رحلتي إلى كييف سنة 2015، بعد انقطاع عنها دام نحو ربع قرن عنها، وأتذكر كل من ساعدني ولو بكلمة في سبيل إنهاء هذا العمل الشاق.
كان لدي حلم قديم تعلق بالحصول على "قصص أغاتانغل كريمسكي البيروتية"، ودراستها ثم ترجمتها إلى العربية. وهي قصص اجتماعية كتبها كريمسكي الشاب بالأوكرانية في بيروت بين كانون الأول 1896 وآذار 1897، تعتبر فريدة من نوعها في تناولها المجتمع والعادات والأعراف في المسكن والملبس والمأكل، اللغات واللهجات، الاقتصاد والمال، المشارب السياسية والعلاقات بين الناس، النظم التعليمية وعلاقة التلميذ وذويه بالإرساليات، التناحر بين المذاهب في الطائفة الواحدة... وقد ادعى كريمسكي بصريح العبارة أنّ "هذه القصص تحكي عن بيروت ولا تتضمن أي اختلاق أو تخيّل. إنّها الحقيقة مجرّدة، لكنني، وكي أجعل ملحوظاتي الاجتماعية والاثنوغرافية أكثر تشويقًا للقراء حكتها قصصًا وصببتها في قالب أدبي جميل". لكن كيف السبيل إلى الحصول على هذه القصص التي طبعت على صفحات مجلة "نوفا هرومادا" في العام 1906؟

بين العامين 2014 و2015، كان المجلس الثقافي البريطاني ينفذ في أرمينيا وأذربيجان وجورجيا والأردن ولبنان وأوكرانيا مشروعًا مشتركًا مع المنظمات المحلية للأشخاص ذوي الإعاقة حمل عنوان "القرارات الدامجة حول التكافؤ والمساءلة الاجتماعية"، وقدر لي أن أعمل على جانب من هذا المشروع ممثلا "الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا" (اتحاد المقعدين اللبنانيين آنذاك)، والذي أفخر بالانتماء إليه والتطوع في صفوف مناضليه منذ العام 2005. وكانت مهمة المؤتمر الإقليمي في كييف، بين 9 و11 حزيران/ يونيو 2015، التشبيك بين الأطراف ومناقشة الإطار العام للمشروع، وقد تمثل لبنان بوفد نشيط تألف من السيدة ماري الحاج (عن وزارة الشؤون الاجتماعية)، السيدة يمنى غريب (عن وزارة التنمية الإدارية)، الأستاذة باتريسيا صوما (عن وزارة الإعلام)، الأستاذ إيلي الجميل (عن المجلس البريطاني)، والزميلة حنين الشمالي (عن اتحاد المقعدين اللبنانيين) ومنّي، حيث كانت رئيسة الاتحاد الزميلة سيلفانا اللقيس قد رشحتني لمتابعة العمل على المشروع. قضينا أوقاتًا لطيفة لم تخل من تعب وجهد، والكثير الكثير من المشي وسط كييف على امتداد شارع الخريشاتيك وفي ميدان الاستقلال، وقد عززت أيام المؤتمر عرى الصداقة بين أعضائه، وما زالت مستمرة إلى اليوم، حيث تلتقي الأهداف على مناصرة حقوق الفئات المهمّشة.

في الأيام الثلاثة التي تلت المشاركة في المؤتمر، قررنا أنا والزميلة حنين الشمالي البقاء في المدينة، وعمليًا لولا حنين ورغبتها في استغلال ما تبقى لنا من أيام في الفيزا الأوكرانية، لما تسنت لي هذه الفرصة الذهبية للحصول على المصادر التي ستخولني دراسة القصص وترجمتها. وكنت غريبا في كييف، لا أعرف فيها سوى الأستاذة أولينا خوميتسكا، أستاذة اللغة العربية في جامعة تاراس شيفتشينكو الوطنية، وكنا بالكاد تعارفنا في 7 كانون الثاني/ ديسمبر 2011، إثر إجرائي والزميلة مارلين خليفة مقابلة مع رئيس الوزراء الأوكراني السابق ميكولا آزاروف، نشرت صباح اليوم التالي في جريدة "السفير"، وكانت خوميتسكا المترجمة الرسمية المرافقة لآزاروف آنذاك.
لم يكن اليوم الأول مجديًا في الحصول على المواد، على الرغم من تمشيطي محال بيع الكتب المنتشرة وسط العاصمة الأوكرانية أو في الممرات التحت أرضية في شارع خريشاتيك، وكذلك زيارتي معهد كريمسكي للاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الأوكرانية، وشرائي نسخًا من مجلة"سخيدني سفيت" (عالم الشرق) و"سخودوزنافتستفو" (الدراسات الشرقية)، ربما لأن المعهد القريب من "ساحة أوروبا" كان في عطلته الصيفية. 

وقد عملت على مسار آخر وهو إمكانية الحصول على صور فوتوكوبية للقصص المنشورة على صفحات مجلة "نوفا هرومادا" (المجتمع الجديد)، أعداد حزيران/ يونيو، تموز/ يوليو، وآب/ أغسطس 1906. فكان أن أعانني في اليوم التالي شاب من رواد مكتبة فيرنادسكي الوطنية الأوكرانية، حيث لا يمكن الدخول إلى هذا الصرح الضخم إلا ببطاقة طالب أو باحث، وبالفعل حصلت على نسخة مصورة ضئيلة الجودة للقصص، وربما مردّ ذلك إلى حال المجلات التي لم أرها لأعرف مدى جودتها. 

وقدر لي في ذلك اليوم أن أزور قسم اللغة العربية في جامعة شيفتشينكو الوطنية الأوكرانية والالتقاء بالأستاذة خوميتسكا لقاء قصيرًا، شرحت لها فيه حول عزمي على ترجمة جميع ما كتب في فن القصة والقصة القصيرة على أيدي رحالة وباحثين آتين من روسيا القيصرية حلّوا في بلادنا، وبدئي العمل على دراسة وترجمة أعمال ستيبان سيميونوفيتش كوندوروشكين، وأملي في ترجمة قصص أغاتانغل كريمسكي البيروتية.
ثم أتى الفرج في اليوم الثالث والأخير، وذلك بعدما حصلت على نصيحة ثمينة من أحد العاملين في محل لبيع الكتب وهي أن أتوجه مع حنين إلى بازار الكتب قرب محطة مترو الأنفاق بيتريفكا (تحول اسمها إلى بوتشاينا سنة 2017). هناك سوق ضخم يضم مئات الكيوسكات والبسطات، تعرض فيه أعداد هائلة من الكتب من جميع الأنواع وبلغات شتى، يبدو بادئ الأمر كمتاهة والعثور على المبتغى كالبحث عن إبرة في كومة قش. لكن الأمر لم يكن بتلك الصعوبة وإن كنا قد صرفنا ساعات في المشي بين ممرات طويلة تصطف الكيوسكات على جانبيها، وكان علينا اختيار الكيوسكات التي تبيع الكتب القديمة، وكانت لدي رغبة في الحصول على المجموعة المختارة من أعمال أغاتانغل كريمسكي التي طبعت مطلع سبعينيات القرن الماضي في كييف، بعنوان "أعمال أ. كريمسكي في خمسة أجزاء"، وتتكون من ستة مجلدات. وبالفعل وصلنا على كيوسك إيهور، الذي استمع إلى طلبي باهتمام كبير، وتركنا بين أكوام الكتب وغاب نحو عشر دقائق قبل أن يعود بالحمل الثمين... فعدت به إلى بيروت.

اليوم، ومع نفاد الطبعة الأولى من كتاب "1897 – قصص بيروتية"، أشكر كل فرد ورد اسمه في هذه الرحلة، وأضيف إليهم آخرين كان لهم فضل في وصول هذا الكتاب إلى يد القارئ، ولو بكلمة أو ملحوظة خلال فترة خمسة عشر شهرًا عكفت فيها على الدراسة والترجمة والتعليق والتحرير. أذكر منهم رئيس "نادي خريجي أوكرانيا" الصديق الدكتور ذوقان جرماني وزوجته السيدة إيرينا فيسوتا، اللذين عرفاني إلى الكاتب الأوكراني أناتولي فيسوتا، واحتضن منزلهما في بيصور لقاءين لي به، فكان أن عمل على تنضيد القصص على الكومبيوتر وقدّم للكتاب. 

وكذلك أشكر "جمعية متخرجي جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي في لبنان" بشخص رئيسيها السابقين الدكتور علي قبيسي والدكتور نجيب حيدر، والصديق الدكتور طوني معلوف، والرئيس السابق لـ"حزب المشرق" المحامي الأستاذ رودريغ خوري، والأخ الصديق عصام سحمراني، والأصدقاء حسان نون، جميل يوسف، فؤاد مقداد، محمد بدران.. والتقدير الكبير للصديق المترجم الدكتور محمد أحمد شومان الذي أرهقته بتحرير المخطوط، وأشكر من شجعني ومنهم الأساتذة نهلة الشهَّال، زهير هوَّاري، نصري الصايغ، تاتيانا كوفاشيفا بحر، وأشكر الدكتور فوَّاز طرابلسي الذي قرأ المخطوط وقدمه إلى الطباعة والأستاذة فاطمة بيضون التي تولت هذه المهمّة. ولا أنسى الحفاوة التي حظي بها الكتاب خلال حفل توقيعه في جناح "رياض الريس للكتب والنشر"، بتاريخ 6 كانون الأول/ ديسمبر 2016، من قبل السفير الأوكراني في لبنان البروفيسور إيهور أوستاش الذي رأى في الكتاب مدماكًا في جسر التواصل الثقافي بين البلدين، ومجموعات كبيرة من خريجي الاتحاد السوفياتي عامة وأوكرانيا خاصة، والمهتمين بتاريخ بيروت والأصدقاء والزملاء.

لقد فتحت دراسة وترجمة قصص بيروتية أمامي أبواب كييف، كما مهدت الطريق إلى التعمق في اللغة الأوكرانية وإنتاج ترجمات أخرى منها ما طبع ومنها ما هو قيد الطبع اليوم، ومنها ما سيرى النور في السنة المقبلة. وما كان كل ذلك ممكنا لولا تلك الأيام الثلاثة في كييف 2015.
عماد الدين رائف

Comments