فاسيلي كوزنتسوف - متى بدأ كل ذلك؟

نص: فاسيلي كوزنتسوف، ترجمة: عماد الدين رائف


متى بدأ كل ذلك؟

يبدو أنه حدث في الوقت نفسه لدى الآخرين، لدى الجميع.

كان ذلك في 17 آذار/ مارس 2020. اقتحم الفلسطينيون المعهد، موقرين متراصّين. وكان على رأسهم نايف حواتمه. كنت أظن أنه تقاعد منذ فترة طويلة، لكنه ظهر.

على قيد الحياة.

أسطوري.

متطرف. مناضل في سبيل السلام. مثل قطعة أثرية في متحف.

زعيم الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين التي لا يُذكر وجودها إلا في معهدنا.

في الواقع، كنا قد التقينا من قبل. كان ذلك في الشتاء، وكان نزل في فندق متواضع بعيدًا عن مركز المدينة، وأنا اصطحبت معي إليه صحافيًا فرنسيًا.

أسطوري أيضًا.

كان جناحه المكون من غرفتين مكتظًا بشبان صموتين قويي البنية، ذوي مظهر حذر.

كنا ننتظر في غرفة الاستقبال.

خرج إلينا حواتمه من غرفته كنصب تذكاري. كان يرتدي بذلة رمادية فاتحة من ثلاث قطع، في قميص أبيض. وجهه متجمد، كان يتحرك بسلاسة وبشكل ميكانيكي تقريبًا.

عام 2020 كان هو نفسه. بدا أنه في البذلة عينها، والشبان حوله لم يتغيروا. 

تكرر كل شيء كما لو أنه مستنسخ: ظهر في الغرفة وعلى وجهه ابتسامة مواربة، وجلس إلى الطاولة، مستقيماً كعصا، وجهه الشاحب شبه الشمعي لم يعبر عن أي شيء. سألوه عن شيء ما. في الواقع، لا يهم عمّ.

كانت عيناه تنظران إلى البعيد، ويداه ملقاتان بلا حراك على الطاولة. بدأ الكلام. تحدث لمدة خمس دقائق، عشر، نصف ساعة، وبدا أنه يستطيع التحدث من دون توقف لمدة ساعة أخرى. حتى ينتهي العالم. لا يهم ما قاله. لا يهم لمن. لا يهم حتى متى. قال الشيء نفسه قبل عشر سنوات، قبل ثلاثين سنة، على نوتة واحدة تقريبًا، تمامًا كما لو أنه يقرأ بيانات حزبية.

كان اليوم الأخير من عملنا في روجديستفينكا 12 ، ذاك الربيع. 

في اليوم التالي بدأ الحجر الصحي وتغيرت حياتنا.

وكما اتضح لاحقًا، إلى الأبد.

***


أو ربما لم تبدأ هذه القصة آنذاك على الإطلاق، ولكن قبل عدة سنوات.

لدى أمي في غرفتها صورة صغيرة.

عام 2013. في الربيع، على الأرجح، كنت مع ابن أختي بوركا. كنت لا أزال نحيلًا، في معطف أسود فوق الركبة مباشرة (أين هو الآن؟). كان بوركا في سترة وقبعة مضحكة. وقفنا فوق أساسات ما سيغدو فيما بعد منزلنا. لم يكن منزلًا بعد، لكنه لم يعد مجرد حلم بمنزل. كان يبدو مثل هيكل خشبي لسفينة، أو كالهيكل العظمي للحوت الذي ابتلع يونان النبي (يونس). أطلت السماء الزرقاء الباهتة علينا من الفتحات بين الألواح والعوارض الخشبية. بدا الهواء شفافًا كما هي الحال فقط في الربيع ومطلع الخريف. رفعت يديّ كأني أقول: انظر ماذا سيُبنى هنا. نظر بوركا وكأنه يتساءل إن كان الأمر سيتمّ.

كنا سعيدين.

قبل تلك الصورة، وعلى مدى سنوات تحدث الجميع إلى ما لا نهاية عن ذاك المنزل، تجادلوا حول المنزل، تشاحنوا بشأن المنزل، وحلموا به.

كان لدينا منزلنا القديم. بدت ألوانه جدرانه التي تحاكي سماء الخريف المزرقّة كأنها تلمّح إلى أن تلك الصورة ستظهر يومًا ما.

كثيرة كانت الأشياء فيه.

بدت لي حديقته ضخمة، على الرغم من أنها نصف مساحة الحديقة الحالية. إلى جانب أشجار التفاح، نمت فيها شجيرات توت العليق وعنب الثعلب. وفي الصيف كان من الضروري العمل المستمر على قطع أغصان التوت أو ربطها. وإلى جانب توت العليق وعنب الثعلب وأشجار التفاح، نما العشب طبعًا، ونباتات أخرى. نباتات البلسم المزهرة المنتشرة في كل مكان، والتي خاضت جدتي معها حربًا بلا هوادة. كان من المستحيل أن تكسب تلك الحرب، أما أنا فأحببت كسر أغشية بذورها الشفافة، ومشاهدة عصائرها تتدفق على يدي، أو تفرقع حبات بذورها فتنتشر في جميع الاتجاهات مبشرةً بهجوم جديد من نباتات البلسم.

ذاك المنزل كان ينهار ببطء.

كانت مساحته صغيرة، فإذا ما أويت إلى الفراش، لن تتمكن مسبقًا من معرفة مع من ستستيقظ.

أعرف كل ما كان هناك. لم يقتصر الأمر على السعادة فقط. أحيانًا، عندما آوي إلى الفراش، أغمض عيني وأراه. لا أرى المنزل كله، ولكن قسمًا من الشرفة وركنًا صغيرًا خلفه، خلف جذوع أشجار الكرز والكستناء الضخمة، بالقرب من الموقد الخارجي. يحيط بها العنب البري المتضخم. تنتصب شبكة معدنية عازلة فوضى جزء آخر من الحديقة، كحاجز أخير أمام زحف الأعشاب الضارة. وهناك طاولة قديمة مغطاة بقطعة قماش بيضاء.

كلهم كانوا هنا.

الباقون على قيد الحياة اليوم، وأولئك الذين رحلوا منذ زمن بعيد. أبي المبتهج، وجدتي الجالسة على كرسي ذي ذراعين، وصحف الكلمات المتقاطعة ملقاة بجوارها، وجدتي الكبرى أكلياكليا هنا أيضًا... كلهم، كلهم... حتى الجد مارتيانوف غير مخمور، يصلح شيئًا ما جانبًا. الوقت نهاية الصيف. تنبعث منه رائحة الفلفل المهروس. ولسبب ما، الجميع يشعرون أن الحال جيدة. تقف آلة غيتار قربنا، ربما عزف عليها شخص ما هنا ونسيها.

رحل مارتيانوف.

في السنوات الأخيرة، حين كان على قيد الحياة، نادرًا ما قصد آخرون المكان. وحدها جدتي كانت تأتيه نهاية كل أسبوع. أعتقد الآن أنها لم تصطحبني كثيرًا. لكن رسخ في ذاكرتي كما لو كانت تفعل ذلك طوال الوقت. ركبنا قطارًا كهربائيًا في محطة ياروسلافسكي للسكك الحديدية، كنا نجلس عادةً في العربة الرابعة. كانت تحتوي على محرك، ما يجعل العربة تهتز قليلاً أثناء الحركة، لذلك كان فيها عدد أقل من الركاب مقارنة بالأخريات. نوافذها السميكة المتسخة مبللة بالضباب من الداخل ومجمدة من الخارج. وخلفها أسوار عليها غرافيتي "ف. ك. 1". كما أتذكر الآن، تصطف رسوم الغرافيتي هذه على الجدران في قصة حقيقية. بدأت قصتها من أن لينين حيّ، وأن تسوي  لم يرحل بل خرج ليدخن، ويستمر في التفكير بروسيا والروس، وانتهت بالدعوة إلى "حطّم النظام!".

تستغرق الرحلة بين نصف ساعة وأربعين دقيقة. وخلال هذا الوقت، يمكنني فعل الكثير إن لم أنمْ ... أقرأ عن نارنيا  أو التنانين، واستمع إلى قصص جدتي، وانظر من النافذة، وابتكر القصص..

حافلة "باز" القديمة. نقانق مسلوقة أو أفخاذ دجاج مقلية للعشاء. بوظة.

عندما لم تكن الأمور سيئة للغاية، كنت أذهب مع جدي إلى غرفته. على الرغم من أنها تفوح دائمًا برائحة النبيذ الحامض، إلا أنني أحببتها. فوق السرير، علّق جدي خريطة كبيرة للاتحاد السوفياتي، وأخبرني عن مصر.

في بعض الأحيان، لم يجر الأمر على هذا النحو. بمرور الوقت بات ذلك نادرًا أكثر فأكثر.

وعندما مات ذلك الصيف، بدأ الجميع يقصدون العزبة من جديد. 

تمرّ أشهر الصيف الطويلة. نزهات مع العرابة آلكا، وسهرات لا تنتهي. 

11 آب/ أغسطس، عيد ميلاد جدتي، عندما يجتمعون كلهم، كلهم، عدد كبير من تلاميذها...

ثم رحلت جدتي.

أتذكر كيف كان موكب دفنها، أمامنا سيارة ذات ضوء وامض، أنظر من النافذة الخلفية وأرى طابورًا لا نهاية له من السيارات. في المقبرة، سأل الجميع دفنُ من هذا؟ المعلمة.

بعد عشر سنوات رحلت آلكا.

كان الشتاء والوحل، وكانت هناك مسيرات احتجاجية في موسكو، وماتت عرابتي الصغيرة في بتروفسكو رازوموفسكايا.

انهار كل شيء.

كان المنزل ينهار.

وكان من الواضح أن هناك حاجة إلى آخر جديد، ولم يعد من الممكن الاستمرار على هذا النحو. لكن لم يكن هناك مال ولا رغبة، كان الأمر مخيفًا. ثم قامت والدتي بطريقة ما بقلب كل شيء، وها نحن نقف مع بوركا وسط العوارض والسقالات. سيكون كل شيء جديدًا، لكن لن نتمكن من الحفاظ على كل ما كان.

لو لم يكن هذا المنزل الجديد، كما اتضح فيما بعد، لما كان بالإمكان الحفاظ على أي شيء آخر.

***


لذا، ربما بدأت هذه القصة قبل ذلك أيضًا.

ربما بدأت أواخر الثلاثينيات، عندما لم تكن هناك قرية، ولا مرائب حول القرية، عندما كانت هناك ثلاث عائلات فقط في الشارع كله. لم يُسمَّ النهر الموجود أسفله بـ"النتن"، وسار الناس مسافة أربعة كيلومترات للوصول إلى القطار. عندما حصل جدي الأكبر، أستاذ الكيمياء، على قطعة أرض هنا، وأعطت أكلياكليا نصفها لصديقتها، العمة تانيا، التي لم أرها لكني كنت أعرف عنها منذ الطفولة. عندما لم يكن لديه الوقت لإكمال بناء العزبة، مات في الحرب حين قصف منزله في أربات، وتركت أكلياكليا المدرسة واستقرت هنا مع والدتها التي كانت ترتدي الأسود دائمًا. إيرينا فاسيليفنا وابنتها المراهقة، كانتا تعيشان على ما تنبت الحديقة وتشعلان المكتبة ببطء للبقاء على قيد الحياة في فصل الشتاء. وفي الصيف، كانت أكلياكليا تربي الأزهار وتبيعها لتعيش.

ثم أتى ماغدان. لماذا، وكيف انتهى به الأمر مع جدتي هناك؟ يلفّ ذلك الكثير من الغموض. كما هي الحال،  مع كل ما في تاريخنا الرهيب في تلك الأوقات.

وُلدت أمي.

ها هي جالسة، لا تزال صغيرة جدًا، على درجات منزل تم الانتهاء من بنائه للتو. تنظر وتنظر وتنظر إلى الطريق. إنها تنتظر عودة والدتها الحبيبة آتيكا من العمل...

ربما بدأ كل شيء بالفعل حينذاك.

لا أعلم.

***


يوم الخميس، 18 آذار/ مارس 2020، كنا جميعًا في العزبة.

كنا كثرين. والآن أحاول أخيرًا أن أحصي كم كنّا. بغض النظر عن مقدار العدّ خلال هذين العامين، فإن الرقم لم يتطابق أبدًا. يتراوح دائمًا بين 14 و16، ويبقى تقريبيًا، أكثر من ذلك أو أقل. كما لو أن شخصًا ما غير مرئي يعيش في المنزل معنا.

ربما الأمر كذلك.

أحضرنا من موسكو تمثالًا لمعبود من مالي، كنا قد اشتريناه في مراكش. ربما ليس لربّ مالي، بل سنغالي، أو حتى صنع في مشغل المتجر نفسه حيث ابتعناه.

ليس من الواضح ممَّ هو مصنوع: خشب، جلد، نوع من الزجاج في البطن، وريش مزروع فيه. عيناه عبارة عن ثقبين محفورين بخشونة، حُشرت فيهما بلورتان من البورسلين الأبيض.

جاء معنا واستقر في غرفة المعيشة على طاولة الطعام كبيرة. كان يقف هناك طوال الوقت، ينظر إلينا، ويحرسنا. ولم يغادر قبل انتهاء القصة.

كم كنا آنذاك؟

أفكر ولا يمكنني أن أحدد. لا يزال العدد تقريبيًا في رأسي. كنت أنا وناستيا وأمي وأختي كاتيا مع زوجها ميشا وولديها بوركا ودانكا، وكانت رادميلا مع بوركا، وكانت هناك أيضًا جدتنا كلنا أفيشكا، وتاتيانا يوسيفوفنا، والدة ميشا التي لم تستطع المكوث معنا لفترة طويلة فغادرت ما إن تمكنت، وكانت حماتي إيرا مع ابنها فلاسيك، وفيكا وماكس ووليد... ثم غادر وليد، ووصلت ليزا بنت دانيا. يبدو أن هؤلاء هم... لكن على أي حال، أحيانًا يبدو أنهم ليسوا كلهم. الأمر مربك بالفعل. كان معنا أيضًا، بالطبع، مجموعة من الكلاب توحي أن كل ما حدث كان مجرد عطلة.

عندما أحاول أن أخبر كيف عشنا، لا يمكنني أن أعبّر بوضوح. بدت ذكريات العامين الماضيين وكأنها تلتصق في رأسي كرزمة كبيرة من الصحف المبللة، كتلك التي يُصنع منها معجون الورق. يستحيل فصل ورقة عن أخرى في هذه الكتلة، وما طبع في تلك الصحف أمر غير مفهوم بتاتًا.

الشهر الأول كان الأكثر جنونًا. تحتشد لدى تذكّره صور المرح المحموم، والكحول، والتذمر، والطهو المستمر، والمناسبات التي لا نهاية لها، وتكرار المحادثات تلقائيًا حول الأمور عينها، وهضم الشائعات، والغموض.

ربما كان هناك عمل أيضًا، لكنه ضاع بطريقة ما وراء كل الأمور الغريبة التي كانت تحدث.

شعر الجميع ببعض الغيرة من كاتيا وفيكا، وربما ميشا، الذين حافظوا على بعض مظاهر الحياة الطبيعية بحدودها الدنيا. استيقظوا في الصباح، وغسلوا وجوههم، وشربوا القهوة، وذهبوا إلى العمل، وفي المساء عادوا إلى بيتنا الصغير. أمضت كاتيا وفيكا اليوم كله في مستشفى للأمراض النفسية وشاركتانا الشائعات والنمائم الجديدة في المساء. مشّط ميشا جميع أنحاء المدينة ركضًا، ذهابًا وإيابًا، وبدا أنه يستغل الموقف ليهرب أحيانًا على الأقل منا جميعًا.

ثم أصبح الأمر أسهل قليلاً. بدأنا نطور بعض الطقوس اليومية التي جمعت حياتنا معًا، وضبطت إيقاعها ولم تسمح لها بالانزلاق نحو الفوضى الكاملة. لكل منا طقوسه الخاصة، لكن بعضها بات مشتركًا للجميع.

في الصباح كنت أقلي البيض. كنت أستغرق في ذلك نحو أربعين دقيقة. تُفرم بصلتان أو ثلاث، مع بعض الفلفل الحار، وثلاث أو أربع حبات من الطماطم الأذربيجانية (في الحالات القصوى الأوزبكية، لكن ينبغي أن تكون صغيرة الحجم)، لحم الخنزير المقدد والجبن. يُقلى البصل لفترة طويلة، في منتصف العملية يضاف الفلفل الحار ولحم الخنزير المقدد المفروم حلقات، ثم الطماطم. يُنتظر حتى يختفي السائل بالكامل، وبعد ذلك فقط يغطّى كل شيء بست أو ثماني، أو عشر بيضات. يضاف الملح، ويُرش الجبن. يُغطى لمدة دقيقة ويأكل.

في تلك اللحظة تظهر أفيشكا في المطبخ. "بيض مقلي؟ أنت قليته؟ إذن سآكل"

لم يكن مزاجها في الصباح جيدًا، لكن أثناء تناول وجبة الإفطار كان يظهر ذلك جليًا، خاصةً إذا كان هناك شيء ما لمناقشته. ثم كانت تذهب للراحة، ثم يعود الجميع أدراجهم أو يبدؤون بعمل ما.

كنت أذهب إلى غرفة كاتيا مع ميشكا، وهناك أدخن سيكارة تلو سيكارة، أحدق في الشاشة الفارغة. أحاول الضغط على شيء في نفسي. ما هو، لا أذكر. أتذكر فقط أنني لم أفلح في شيء، وأن رأسي لم يستقبل الأفكار.

بشكل عام، كان لدي شعور بثقل رأسي، كما لو أنه مسدود بصوف القطني، لا تظهر فيه أي فكرة لائقة. تتبادر إلى الذهن هذه الصورة عندما أتذكر ذلك الوقت. المهمة الرئيسية كانت كيفية التخلص من الجنون.

تشكلت خمس فرق. تولت كل واحدة منها مهمة الطهو والتنظيف ليوم واحد. في نهاية الأسبوع الأول، نظم بوركا قرعة الفنجان المتعلقة بتوزيع الأيام على مهمات التنظيف والتفنن في الطهو. ووصل إلينا الدور.

في المساء، كنا نتحلق حول طاولة ضخمة في المضافة.

كانت أمي متيقنة من أن الجميع ليس لديهم حديثًا عامًا. كان الحديث العام ينزلق عادة في مرحلة ما إلى السياسة، وكنا نتجمد في حال من التشويق، في انتظار الشرارة التالية. يمكن أن يكون سببها، من حيث المبدأ، أي شيء: من آخر الأخبار إلى مكونات الأطباق المقدمة على الطاولة. الحرب، ذكريات الشباب، الأدب، الأفلام، التقارير الصحافية، الحكايات، قصص الحياة، أحدث القيل والقال، مجموعة متنوعة من البضائع، تولستوي وغلزورثي، نابوكوف وغوركي، ماياكوفسكي وإرينبورغ... أي شيء يطير في أتون المعارك الأيديولوجية.

أما "الجوّالان"  دانيا وماكس، اللذان انضمت إليهما ليزا لاحقًا، إذا لم يكن ذلك يوم مناوبتهما، فكانا يهبطان من الطابق العلوي معًا، يأكلان معًا، ثم يركضان عائدين معًا. لطالما تأثرت أفيشكا بهما، قائلة إنهما يبدوان مثل قطين صغيرين في سلة. كان هذان القطان يدخنان النرجيلة دائمًا، ويتزودان بوقودهما - مشروبات الطاقة، ويتحدثان عن الطب. خلال هذا الوقت، تعلمنا جميعًا (بالترتيب حسب الأولوية) أمورًا عن علمي الخلايا ووظائف الأعضاء، وعن علم الأحياء المجهرية. إنها أمور مرعبة. بالإضافة إلى أن قسم علم الخلايا في الجامعة فظيع، ثم اتضح أن قسمي وظائف الأعضاء والأحياء المجهرية لا يقلان فظاعة.

كان ميشكا يدعو إيرا لشرب أنخابًا مختلفة قدحًا تلو الآخر، وكان فلاس يتحين الفرصة ليدفن نفسه في هاتفه، وكانت الحياة تدبّ في فيكا عند الحديث عن العمل أو الكلاب، ورادميلا تؤخذ بأحاديث قصيرة عن قصص الحياة، فيما كانت ناستيا تركض مسرعة إلى الأريكة أو إلى غرفتها لتعمل.

كانت أيام الأربعاء هي الأكثر متعة، حين كانت مناوبة بوريا ورادميلا. لم يهوَ "بوبس" الطهو ولم تكن لديه أي دراية به، لذلك حوّل مناوبته إلى حفلة شواء أبدية، كان إعدادها مصحوبًا بتذوق الفودكا. كان الشواء يبدأ متأخرًا ويُقدم العشاء قبيل منتصف الليل. بحلول ذلك الوقت كنت عادة في حالة سكر.

احتفظت بجزء من قائمة طعام تعود إلى تلك المدة. في البداية، حاولت إعادة تدوينها هنا، إلا أن قائمة واحدة من الأطباق احتلت صفحة تقريبًا، فحذفت كل شيء.

صديقي وليد الذي جاء إلى موسكو من تونس لقضاء إجازة، والذي استقر معنا ظل يسأل: "هل سيكون العشاء دسمًا اليوم؟ حسن جدا! أهم شيء هو تناول عشاء دسم. أنا أتناول اللحوم كل يوم".

خلال النهار، حاول الاتصال بالسفارة، سعياً لإخراجه من روسيا. إما أن السفارة بقيت صامتة أو ردّت عليه بما لا يرضيه. كان يشرب على العشاء، وفي الليل، عندما يغدو الجو أكثر دفئًا، يخرج إلى الحديقة ويستمع إلى الموسيقى.

ذات مرة رقصت وحدي هناك طوال الليل، ثم نمت في غرفة المعيشة على الأريكة. ورقص وليد تحت أشجار التفاح ليلًا هو أيضاً من سمات تلك الأوقات.

في الواقع، لم يكن وليد وحده الذي رقص. رقصنا جميعًا، وكان هذا أيضًا من الطقوس اليومية.

قبل عشر دقائق من العشاء، قمنا بتشغيل فيديو كليب "أونو" الذي كان رائجًا في ذلك الموسم، كنا نصطف أمام التلفاز ونرقص. رقص الجميع، أو الجميع تقريبًا، حتى أفيشكا، التي احتفلت مؤخرًا بعيد ميلادها التسعين، وتاتيانا يوسيفوفنا، عندما أتت إلينا.

لم تأت إلينا كثيرًا، فحين كانت تتاح لها الفرصة، كانت تولي مغادرة إلى بيتها في موسكو أو إلى العزبة. مرّت بأوقات عصيبة معنا. كان الأمر صعبًا على الجميع، على نحو خاص بالنسبة إليها. انعدام العزلة كان مؤلمًا للجميع إلى حد ما، إلا أنها كانت تعاني منه بحدة.

عندما كانت تأتينا، كانت تجلب معها إيقاعًا وأسلوب حياة خاصين للغاية.

*** 

نهارًا..

أحاول أن أفعل شيئًا ما في الغرفة الخلفية. وليد غارق في هاتفه في الحضانة. "الجوّلان" يلعبان لعبتهما الطبيّة. ناستيا تكتب أطروحتها للماجستير. فلاس إما يدرس أو يتظاهر بالدراسة. تستعد أمي لإلقاء محاضرة وهي غاضبة من "الوورد" أو "الباور بوينت". تنظر إيرا ورادميلا إلى شاشتي "اللابتوب". يحاول بوريا إنقاذ "البزنس" ويجادل بصوت عالٍ بشأن شيء ما على الهاتف. تستمع أفيشكا إلى "صدى موسكو" وتستعدّ للظهور في المضافة: "يعني، المسألة هكذا. سأخبركم!". 

تجلس تاتيانا يوسيفوفنا على كرسي بذراعين وسط كل هذا المشهد، وقدماها على طنفسة، تستمع إلى حفل رحمانينوف على قناة "كولتورا" التلفزيونية. سيصل ميشا قريبًا، وستوبخه قليلاً لأنه يشجع الجميع دائمًا على الشرب، ثم نضحك جميعًا، ونتذكر "أي ولد طيب كان" و"كيف كان يسمع الكلمة". بعدما تتعب منا، تذهب إلى غرفتها قبل العشاء. هناك مصباح مشتعل يضيء الألواح الخشبية الدافئة على الجدران، ستقطع من الصحيفة اختبارًا مسلّيًا أو نصًا إثنوغرافيًا للإملاء، وذلك للترفيه عنا لاحقًا، وستتناول كتابًا.

في المساء، بعد الرقص والعشاء، نجلس لمشاهدة مسلسل. تجلس تاتيانا يوسيفوفنا مع الجميع لمدة من الوقت، ثم تعود بهدوء إلى غرفتها. لكن أفيشكا تضع سماعات ضخمة على رأسها، وتجلس أمام الشاشة وتقطع المشاهدة بشكل دوري بملاحظات: "كاتيا، ماذا قال؟ إيرا، كيف فعل ذلك بيده منذ خمسة عشر دقيقة؟ أجل، أجل، لم ألاحظ. لأنه من المستحيل مشاهدة فيلم معك!".

إنها حزينة أيضًا. ليس بإمكان تاتيانا يوسيفوفنا أن تأمل في الهروب إلى العزبة، فليس لديها مكان تهرب إليه، ولا يوجد سبب لذلك. نعم، وهي لا تستطيع تحمل العزلة.

في الآونة الأخيرة، قبل بضعة أشهر فقط، كانت تعمل، وباتت تشعر الآن أنه سيكون من الصعب العودة. وعلى الرغم من أن الحديث عن العودة إلى المرضى شائع مثل الحديث عن السياسة، إلا أنها تخشى أن ينتهي الأمر. المرضى الذين ما زالوا يتصلون باستمرار سيغدو ظهورهم أقل فأقل. الوقت ينفد ويذهب إلى مكان ما، وقريبًا قد يختفي تمامًا.

في بعض الأحيان كنا نحتفل بأعياد الميلاد.

تقوم تاتيانا يوسيفوفنا بإعداد "نابليون"  والقلوبات. ومن السوق، يُؤتى بجبل من المنتجات في سيارة خاصة. نطلب أشياء غير معتادة، كالأخطبوط والمحار والحبار. يأتي بها موظف ذو ملابس زرقاء من تلك الشاحنة الخاصة ويسلّمني باهتمام بالغ الصندوق المغطى برغوة بيضاء. تقتبس أفيشكا "عيد في زمن الطاعون" ، كانت قد رددت الاقتباس غير مرة مشيرة إلى تفريق جديد لاعتصام ما، أو إلى القضية المتعلقة بنافالني، أو إلى فضيحة فساد. 

"كل شيء سيء. كل شئ سيء جدًا. لكن المور ستزداد سوءًا. سترون".

نحاول، بكل قوتنا، التظاهر بأن كل هذا ليس مهمًا للغاية، وأنه من المهم فقط أن نستمر، وأن نكون معًا، وأن الحياة حولنا تقتصر على حديقتنا وأشجار التفاح لدينا.

قريبًا سيكون الجو دافئًا جدًا، وسنملأ بركة السباحة ونفتح الشمبانيا...

هكذا انقضى ربيع وصيف 2020.

هكذا بدأ عام 2021 واستمر.

عشنا كلنا معًا، ثم تفرقنا في كل الاتجاهات، لكن جزءًا منا بقي دائمًا هنا، في هذا المنزل، في الحديقة، في العزبة.

في صيف عام 2021، استيقظت أفيشكا في الصباح وتناولت الإفطار وتحدثت مع الفتيات وجلست على الأريكة وتوفيت. قبل ذلك بيومين، أخبرتني: "فاسكا، لقد غرقت في العمل حتى أذنيك. ما رأيك أن نصطحب الماما وناستيا ونذهب إلى فرنسا في الصيف؟".

مرَّ الصيف، وبدأ الخريف.

نُقلت تاتيانا يوسيفوفنا إلى المستشفى بسبب عدوى كوفيد.

كان من المفترض أن أسافر إلى دبي. التقطت البذلة من عمال المصبغة، وقفت في وسط الطريق وانتحبت.

سارعتُ في العودة.

ماتت بعد يوم.

لم أودّعها.

عندما آوي إلى الفراش، أغمض عيني وأتخيل منزلنا القديم، والآن أفكر في المنزل الجديد. ها هي ناستيا، إنها نائمة بالفعل بجواري، مرخية يدها على كتفي. في الغرفة المجاورة، أفترض أن بوركا ورادميلا ما زالا يشاهدان شيئًا ما. الجوّلان كاتيا وميشكا، استلقى البلدوغ بينهما، تكوّر على نفسه بإحكام قدر استطاعته. في الطابق نامت والدتي ناسية أن تخلع نظارتيها وتطفئ الضوء. هناك إيرا وفلاس. ووالدة حماتي ليودميلا ماكاروفنا. لم تنام بعد، ما زالت تقرأ.

سيبدأ عام 2022 قريبًا.

ستبدأ الحرب قريبًا.

=== 

هوامش

المبنى 12 من شارع روجديستفينكا في مدينة موسكو: عنوان معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم. 

فيكتور روبيرتوفيتش تسوي (1962-1990): رائد موسيقى الروك في الاتحاد السوفياتي، مؤسس فرقة "كينو" التي تعتبر الأكثر تأثيرًا في تاريخ موسيقى الروك الروسية. إثر موته بحادث سير، انتشرت على الجدران في مختلف المدن السوفياتية كتابات غرافيتي تحمل عبارة "ف. تسوي حي". 

سجلات نارنيا: سلسلة من سبع روايات خيالية فانتازية صدرت في لندن بين 1950 و1956 للإرلندي كليف (جاك) لويس (1898-1963). 

الجوّال: من الرتب الكشفية المتقدمة، تعادل "الرائد" في المصطلح السوفياتي "بايونير" (الرائد) الذي استخدمه الكاتب. 

قالب حلوى يُعد في مناسبات خاصة، إذ يستهلك إعداده وقتًا وجهدًا كبيرين.  

عنوان مسرحية لأكسندر سيرغييفتش بوشكين (1830). 

=== 

Comments