صغير القوم .. خادمهم

صغير القوم.. خادمهم
المستقبل - الخميس 11 آب 2005 - العدد 2005 - شباب - صفحة 9
عماد الدين رائف
يكبر الأطفال، يتعلمون فيتخرجون، أو لا يتعلمون فيعملون لتحصيل لقمة عيشهم. لكنهم يتزوجون فيتركون بيت العائلة ويرحلون. يبقى في البيت صغيرهم، الذي ما أن يصل إلى الـ"طعش" حتى تتكدس على كاهله المسؤوليات واحدة تلو الأخرى. إنه شاب كغيره يريد أن ينحاز إلى المغامرة والطيش والضهرات، تماماً كأخوته الذين سبقوه إلى الحياة. لكنه لا يستطيع. إنه يمر بتجربة "رب المنزل"، على الرغم من كونه ما يزال في إطار غير المؤهلين لذلك. ما الذي فعلته سنوات قليلة ببعض أولئك الشباب؟ وكيف تحولوا، تحولاً جذرياً، من مرحلة الطفولة المتأخرة والتدليل بصفتهم "صغير الكل، وآخر العنقود" إلى "رجال" يمكن الاعتماد عليهم مبكراً من قبل الأهل، ويمكنهم بالتالي الاعتماد على أنفسهم لشق طريقهم إلى الحياة.* * *يبتسم أحمد، ويأخذ وقته قبل أن يتحدث عن حياته. تزوج أخوه الذي يكبره بسنتين بعد أشهر من وفاة الوالد، فتركه وأمه في بيتهم المستأجر على ضفاف "النهر الأبيض"، في منطقة حي السلم. يقول : "لم تكمن المشكلة في تلبية طلبات الوالدة والتسوق في البداية، فهذه الأمور كانت من نصيبي، حتى قبل أن يغادر أخي البيت"، يفرك جبينه بيمناه ويشذب بأطراف أصابعها شعر لحيته النامي، ويضيف: "كانت المشكلة في مسائل أخرى تحتاج إلى خبرة أكثر، كتعليق خط كهرباء، أو تشريق موتير مياه، أو تصليح بريز كهرباء، أو تغيير حنفية.. قد تبدو لك هذه الأمور سخيفة، ولكن كثيرة وليست بسيطة كما تبدو". فالتفاصيل تأخذ حيزاً كبيراً من حديث العشريني، سنة أولى في كلية العلوم. وكذلك من حديث جابر، زميله الذي يمر بظروف مشابهة، فقد بقي وحيداً في البيت بعد أن فضل الأهل العيش في القرية.. لكنه استسلم بعد مضي شهرين وفضل العيش عند خالة له على تحمل أعباء منزل لا يعرف فيه "أن يقلي بيضة" كما يقول. ويؤكد أحمد ساخراً من زميله : "بعد مضي ستة أشهر في الأشغال الشاقة صارت الحياة مثل شربة ماء".سامي العشريني، سنة ثالثة إدارة فنادق، يحسد زميله أسامة الذي يتحرك بحرية "مفرطة" بسيارته الكشف، ويجغّل على طول الطريق الفرعية أمام منزله. يقول: "أخوتي، أخذ كل منهم نصيبه من الشباب، خرجوا وسهروا، أما أنا فضهراتي معدودة. أبقى ملازماً البيت والوالدة المريضة، والكتاب أحياناً". يتأفف عند سؤاله عن ميزانية البيت، فالوالد "الله يسهل عليه، لم يترك وراءه شيئاً غير الديون"، كما يقول، ويتكفل هو بتغطية جزء كبير من مصاريف البيت من المبالغ الصغيرة التي يحصل عليها من تدريسه للمواد العلمية في دروس خصوصية أرهقته شتاء تحضيراً للامتحانات الرسمية، وسترهقه صيفاً في انتظار الدورة الثانية أوائل أيلول.* * *الظروف المعيشية التي يمر بها حسان قد لا تختلف كثيراً عن أحمد وسامي، إلا أنه لم يتجاوز العشرين. قام بتحويل الغرفة الأمامية من منزله الأرضي إلى دكان لكافة أنواع الأقراص المدمجة بيعاً وإيجاراً. يعتمد في جزء من نهاره على شقيقته الصغيرة هدى. هدى، فتاة تخطت سنتها الثالثة عشرة، تقف وراء الستاند الزجاجي العالي فلا يكاد يظهر منها إلا عينيها الواسعتين وضفيرتيها. يقول حسان: "اضطررت إلى ترك المدرسة، وها أنا أخدم والديّ المريضين. من وزارة الصحة إلى المستوصفات الله وكيلك". أما عن البداية، أي بعد أن تزوج أخواه وسافر الثالث إلى افريقيا، فيقول: "كنت أجلس ليلاً على سريري لساعات طويلة أرقاً. وفي بعض الأحيان عندما لا أملك أعصابي، كنت أدخل إلى هذه الغرفة التي حولتها إلى دكان ثم أغلق الباب وأصرخ على مدى صوتي". لكن بعد مضي أكثر من سنة على افتتاحه للمحل المختفي وراء غابة من الأسلاك الكهربائية، يضيف: "الحمد لله، صرت أحلم أن تتحسن الأوضاع شيئاً فشيئاً". أما هدى التي ملت من أوامر أخيها التي لا تنتهي فغدت لا تنصاع إلا لما يحلو لها منها، فتقول: "لا أكاد أنتهي من أشغال البيت حتى أتسمر وراء الستاند في الدكان. أو وراء الكومبيوتر لاستنساخ السيديات حتى بعد الظهر لأتحرر من حسان ومطالبه". هدى لا تريد أن تترك المدرسة على أي حال وكذلك هو رأي أخيها الذي يسعى لتقديم الأفضل لأخته "العنيدة".* * *"في الخدمة العسكرية، ومنذ اليوم الأول كنت أحلم بيوم التسريح"، يقول وليد الذي أنهى خدمته الإلزامية ليعود إلى خدمة أكثر قسوة وتعقيداً. يضيف: "أما في البيت الذي أتحمل مسؤوليته الآن، فلا مجال للقول إني أنتظر انتهاء المدة. أي مدة؟ إنها حياتي هكذا ركبت". ترك المدرسة بعد الثانوي الثالث، ولم يحقق حلمه بالسفر إلى الخارج قبل زواج أختيه. الآن، يجد نفسه ملزماً بملازمة والديه اللذين يراقبان حركاته وسكناته. يرى أن حياته صارت "روح روح تعال تعال، إلى أجل غير مسمى، فكل ما يلزم البيت أجد نفسي مضطراً إلى تحقيقه، ولم أستطع أن أتأقلم بعد فقد كانت أختاي تقومان بكل المهام، وأنا كالملك في غرفتي. بعد فترة استطعت أن أحفظ كل تفاصيل البيت وأماكن الأشياء وأن أخدم نفسي ووالديّ.. عجبك؟!"، ثم يلقي باللائمة على والده المبتسم من وراء دخان سيجارته، فيقول: "لو كان أتى لي بأخ أو اثنين لكانت حياتي أبسط". فيجيب الوالد وقد اتسعت ابتسامته: "عندك ضيف، وبعدك مش عامل قهوة، يا عيب الشوم عليك".* * *تنزع رجاء، أو جوجو كما يدلعها الأهل، نظارتها الرقيقة عن عينيها بخفة، ثم تصطنع الابتسام وقد بدت متعبة بعد نهار كامل قضته في المنزل. هي ومنذ حصلت على ليسانسها في اللغة العربية وآدابها، السنة الماضية، انشغلت بالتعليم في مدرسة خاصة أخذت وقتها كله. كانت تعود محملة بالدفاتر الصغيرة إلى البيت لتصحيح الإملاءات والمسابقات. أما بعد أن أقفلت المدرسة أبوابها، وبدأت فرصة الصيف، فكان عليها أن تنهي "الواجبات" التي أهملتها لفترة طويلة في المنزل، لكنها لم تستطع على الرغم من أن الواجبات المنزلية تعتبر من بديهيات حياتها اليومية، منذ وفاة الوالدة. تقول: "لم يعد لدي وقت لأحك رأسي.. هذا أخي ترك زوجته وترك لي طفله لأربيه.. وأبي تزوج ثانية وانتقل للعيش مع زوجته الثانية، فصرت وحيدة مع طفل، لا أعرف كيف أتصرف معه". حاولت إعادة الطفل إلى والدته "المسكينة" عبر التوسط مع "الأوادم"، إلا أن أخاها ما زال رافضاً أن يتخلى عن وحيده. أسبوعان مرا على جوجو التي لم تعد تنظر إلى المرآة.. وصارت تدعي "أن نهاية العالم باتت قريبة.. بتصور أنه رح تقوم القيامة". ثم ما تلبث أن تستعيد بعضاً من أعصابها المنهارة بعد أن ينام الرضيع الذي تعود على الببرونة، فتفك العشرينية ربطة رأسها المستعملة لدفع الصداع وترتشف فنجان قهوتها الباردة دفعة واحدة. وتضيف: "الأطفال شيء جميل ولكن عند أهلهم وليس عندي، الله يبارك بالبيبي كال". لكنها لا تنكر أنها مرت بتجربة علمتها كيف تكون أماً ولم يشرّف ابن الحلال بعد لخطبتها. فتسخر قائلة: "هو، لو أتى ورآني بهذا المظهر لهرب مني".لا بد أن رجاء وهدى ووليد وكل الذين يمرون بتجارب مشابهة ستكون عليهم الحياة بتعقيداتها أسهل، مما ستكون على الذين تركوا منزل العائلة "خام"، فعانوا الأمرين في سبيل تطويع الظروف لسرقة بعض لحظات من الراحة. أما الخبرة التي اكتسبها "أرباب المنازل المرتجلون" من الذين مروا بهذه التجربة فسيوظفوها في حياتهم بعد توظيفها بالتنكيت على أخوتهم الأكبر سناً، أولئك ما يزالون أقل تجربة، وعلى حد قول رجاء لأخيها: "لولاي، شو كنت عملت؟؟".

Comments