الحب الإلهي .. أبعد من الممكن وأقرب من الحقيقة

الحب الإلهي.. أبعد من الممكن وأقرب من الحقيقة
عماد الدين رائف
السفير 08/06/2005


نشأ مصطلح <<الحب الإلهي>> بمعناه القريب في الحياة الروحية في الإسلام في القرن الثاني الهجري. وكانت الحياة قبل ذلك يحركها عامل <<الخوف>> من الله ومن عقابه، وكان <<الحسن البصري>> أبرز ممثلي هذا الطور في حياة الزهاد والعباد الأوائل، فقد عرف عنه أنه كان يبكى من خوف الله حتى قيل <<كأن النار لم تخلق إلا له>>. أما السيدة رابعة العدوية فهي أول من أخرج التصوف من الخضوع لعامل <<الخوف>> إلى الخضوع لعامل <<الحب>>، وهي أول من استخدم لفظ <<الحب>> استخداما صريحا في مناجاتها وأقوالها المنثورة والمنظومة، وعلى يديها ظهرت نظرية <<العبادة>> من أجل محبة الله، لا من أجل الخوف من النار أو الطمع في الجنة. واستكملت نظرية <<الحب الإلهي>> ملامحها وقسماتها بعد ذلك في مؤلفات كبار كأشعار ابن الفارض، ومؤلفات ابن عربي.
هي علاقة فردية بين الحبيب والمحبوب، لا يفصل بينهما إلا مدى البذل وعائق الجسد. يمر بعض الشبان بتفاصيل صراع بين ما يهدفون إليه وبين أجسادهم، في ظل نظرة مستغربة من قبل محيطهم.
حلقة النور
تأملت جمانة صورتها المرتسمة على صفحة المرآة التي تحتل مساحة كبيرة من غرفة نومها. كانت قد أنهت فترة خلوتها. أربعون ليلة مرة عليها وهي في رياضتها الروحية. لم تلحظ تغيرات كثيرة في تفاصيل وجهها الذي زاد نحوله، ولمزيد من التأكد كان عليها أن تتوجه بالسؤال إلى أحد غيرها... ولكنها لن تفعل. تقول: <<المهم الهدف، كنت أتصور أن اكتشاف أسرار الجسم وطاقته الكامنة عبر التأمل سيكون أقصى ما أطمح إليه، ولكن لا...>>. لم تعد تعنيها تضاريس الكهف (الجسد) الذي تسكنه روحها. الروح تعنيها. تلك التي أصبحت حرة في تنقلها الإرادي بعد أن مرت بأقسى تجارب الجوع والسهر والصمت والعزلة. تضيف العشرينية السمراء: <<عندما ترى النور لا بد أن تتبعه. تلك كانت البداية، ثم عرفت أنني من المطلوبين. والمطلوب يتبع النور ليصل إلى طالبه... والحبيب هدفه الوصول إلى محبوبه>>. جوع وسهر وصمت وعزلة: الأركان الأربعة التي يبنى عليها صرح الحب الإلهي. <<حب لا يعرفه إلا قلة تعد على الأصابع، والقاعدة عند الصوفية تقول: من ذاق عرف>>.
رفيقاتها في الكلية لم يذقن، ولكنهن تعودن على غيابها عنهن. <<تغيرت جوج 180 درجة، ما عدت أعرفها>>، تقول سارة التي كانت أعز صديقاتها. ثم تؤكد، قائلة: <<لا، لم تمر بأزمة عاطفية أو شيء من هذا القبيل. كانت تقرأ في بعض الكتب، ثم تعرفت على صديقة مغربية عبر الإنترنت... وبعدها لم أعد أفهم منها شيئا>>. كان اهتمامها بمطالعة كل ما هو غريب قد بدأ معها منذ طفولتها. حدثت سمر <<عن التأمل و الباراسايكولوجي وخبريات الكتب>>، ولكن الصديقة لم تتوقع أن تتركهن جوج إلى غير رجعة. أما جمانة التي جذبت إلى النور الذي رأته، فلم يعد يهمها ما يقال أو سيقال. كل اهتمامها بات منحصرا في عدم تضييع لحظة واحدة في سفاسف الأمور. لديها هدف لا بد من الوصول إليه. حبيبها، الكلي القدرة، ذلك الذي تتعلق به قلوب المؤمنين به للوصول إلى نعيم الجنة. أما هي <<فليس هدفها الجنة، وكذلك لا تخاف من النار التي أعدت للظالمين>>... هدفها هو الله. <<الوصول إلى الحبيب>>.
جذب
أكرم حكايته تختلف تفاصيلها ولكن الهدف نفسه. شاب عشريني. يقول: <<بدأ الأمر من الشام، دعانا أحد أصدقائنا إلى زيارة سيدي ابن عربي. لم أتأثر كثيرا فكل ما كنت أعرفه عن الدين لا يزيد عن كلمتين>>. أمام ضريح محيي الدين ابن عربي سلطان العارفين اصطف أناس متفاوتو الأعمار والهيئات، ولكنهم متشابهون ولم يستطع أكرم حينها أن يدرك وجه الشبه بينهم. يضيف: <<بعد أيام، وعندما عدت إلى بيروت، أتاني سيدي في المنام وأمرني بالتوجه إليه. نهضت مذعورا، فوجدته أمامي يقظة وهو يكمل نفس الكلام الذي بدأه في المنام>>. توجه إلى الشام والتقى بأولئك المجاذيب جمع مجذوب، أي متصل بالله عن طريق الجذب وتوجه إلى ضريح ابن عربي حيث تلقى أول جرعة معرفية قادته إلى طريق الحقيقة <<نوري بوجهك مشرق/ وظلامه في الناس ساري. فالناس في سُدَف الظلام/ ونحن في ضوء النهار>>. يقول: <<ليس عليك أن تصدقني أو تكذبني، عليك أن تجرب بنفسك. أنا نفسي ما كنت لأصدق قبل أن أبصر الطريق... ولكن على أي حال الأمر يستحق التجربة حتى ولو لم يصدق الإنسان>>. التجربة التي يقترحها بعد أن يغمض عينيه الحالمتين تتلخص في بعض الأوراد التي يرددها الشخص في وضعية ثابتة حتى يرى النور، على الساحب للورد أن يجلس على الأرض جامعا رجليه بين فخذيه، متوجها بقلبه مستحضرا حبيبه بين عينيه. وكل ما يقدم من أوراد في سبيل الحقيقة (المحبوب) لا بد أن يأتي الرد عليه الوارد سواء أكان حسيا أو روحيا <<والله ما في أكرم منه>>. أما أكرم، فقد وصل إلى حد التلاشي متى أراد، لا يعير الكشف اهتماما يذكر. فبإمكانه أن يرى من خلال الأشياء وعبر المسافات(!) أو أن يسمع. ولكن كل لحظة يضيعها على هذه الأمور تضيع من حياته، <<ومن يكثر الالتفات يضيع الطريق كما تقول القاعدة>>.
خارج الحضرة
لم تعد الأذكار الصوفية وكذلك الحضرات تكفيه. أحس محمود بعطش شديد ولا بد أن يرويه يقول: <<لم يزدني الوِرد إلا عطشا>>. في الحضرة الرفاعية يجتمع القوم حلقة وهم يرددون أذكارا محفوظة عن ظهر قلب وكلما ازداد اللحن تسارعا كلما تعلقت الأبصار بحلقات النور التي يمن بها الله على الذاكرين. <<يقول، جلّ في علاه: أنا جليس من ذكرني>>. وعندما يقع الشيخ في الذكر يأخذ سكينا أو قامة طويلة حادة ويضرب بها أحد الذاكرين حتى يظهر النصل من ظهره. ولا يحس الذاكر بألم ولا تنزل قطرة دم. كل ذلك لم يعد يكفيه، أحس محمود برغبة غير محدودة بالانطلاق. كان عليه أولا أن يسترشد بشيخه. الذي أمهله أياما طويلة، يقول: <<كان علي أن أصبر لأن مرشدي أدرى بحالي مني، ثم إن القاعد تقول: لا تعترض فتنطرد>>. وأتاه الفرج. انطلق في سياحة جسدية روحية لمدة عام وهو يجوب بين أضرحة العارفين بالله بين لبنان وسوريا ومصر. رجع إلى أهله الذين لم يعرفوه. رجع ابن خمس وعشرين سنة، ولكن كأنه في السبعين أو أكثر. يقول حسام، صديقه: <<شيّبه حبه، لقد دار على كل الأحبة الذين سبقوه من هذه الدار إلى الحضرة الإلهية، وهو ينتظر الآن أن يأذن له حبيبه بالانتقال إليه>>. يؤكد حسام أنه كان يزور زاويته في البيت كل يوم. ويضيف: <<هذا شيء معروف، يمكن لمحمود أن يرسل بروحه إلى أي مكان يريد. حتى ان بعض العارفين يمكنهم التمثل (التجسد) في مكان آخر، غير الذي تركوا فيه أجسامهم>>. يردد أبياتا للرفاعي الكبير سيدي أحمد : في حالة البعد روحي كنت أرسلها/تقبل الأرض عني وهي نائبتي. وهذه دولة الأشباح قد حضرت/فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي. <<فمد الرسول يده المباركة من قبره وقبلها سيدي أحمد>>.

Comments