أمام المحقق البعثي وأمام صدام الذي يضحك عابساً


أمام المحقق البعثي وأمام صدام الذي يضحك عابسا
عماد الدين رائف
السفير 09/02/2005
<<رجل خمسيني أنيق. محقق؟ رجل استخبارات؟ لا أدري>>. أين تراه اليوم؟ ففي يوم انتخابي طويل مر على العراق وأهله تكفلت الفضائيات بنقل آلاف الصور إلى عيوننا. <<أتراه يجرب الديموقراطية؟ أم هو قضى في عملية عسكرية ما؟>>.. مركز تمديد الإقامة في كربلاء. يوم حار من خريف 2001. جلس نور حيث أُمر. كادت الساعة أن تكفيه ليستعيد كثيرا من معالم الطريق. تلك الطريق الطويلة التي قادته إلى هذا الكرسي ذي الغطاء الجلدي الأسود. شارل الحلو، المصنع، الشام، الضمير، التنف، الوليد، الرطبة، الرمادي، الفلوجة، أبو غريب، بغداد، المحمودية، الحلة، الكوفة، النجف، كربلا. كان أحد الموظفين يصرخ في وجه شيخ يحاول أن يلتقط جواز سفره المرمي على الأرض. دخل نور إلى مكتب صغير اقتيد إليه. لم يتكلم الموظف كثيرا، يمكن القول انه تلفظ بما يشبه سؤالا استنكاريا واحدا <<دراسات دينية. دينية ها؟!>>. أشار بسبابته الطويلة إلى الكرسي وبقي وراء مكتبه يحملق، من خلال شاربيه العريضين، في جوازي السفر اللبنانيي المصدر بين يديه. جلس بعدما أمره موظف في لباس عسكري بذلك. مرت الدروب في عيني نور. لم يكن يعرف أن ما ينتظره يمكن أن يشكل أسوأ الذكريات لسنين طويلة. فعندما وصل إلى النجف لم يكن لديه حجز في فندق، لم يكن أحد في استقباله، بل لم يعلم أحد بوصوله. توجه إلى <<برّاني السيد>> أي المكتب. لم يهتد إلى البرّاني بسهولة. تماما كصعوبة تجنب الغبار الخريفي <<في شارع الرسول نزولا، ثم الانعطاف حيث مكتبة الخاقاني>>.. <<كصعوبة إيجاد هاتف دولي محشور بين أرغفة الصمون في دكان>>. تحدث إلى ابن السيد عن الحوزة والدراسة الحوزوية. لم يأخذ المعمّم منه جواز سفره ليمدد الإقامة، لم يرشده إلى وسيط أو شخص مكلف بذلك، أمره أن يتوجه بنفسه إلى كربلاء.. ظن نور انه أمر عادي. <<يمكنك أن تذهب وتطلب تمديد الإقامة للدراسة>>. بدأ كل شيء مما يشبه المستوعب بالقرب من السفارة العراقية في بيروت. حيث تمنح الفيزا.. كان المستوعب الغرفة مزينا بصورة بالأسود والأبيض لصدام.. كان الموظف يحاول أن يبدو لطيفا جدا.. <<سياحة.. ولا زيارة؟؟>>. سياحة؟ أي سياحة يقصد؟ لا بد أنها السياحة الدينية. فلتكن. <<لا، لا يوجد أقارب أو أصدقاء.. نعم بغداد>>. لا، بدأ قبل ذلك. فإجازة العلوم الشرعية، المعلقة على الجدار، هي التي قادته إلى هذا الحلم المغامرة. لا، إنها بيروت التي تنكرت له وكشرت عن أنيابها. بلد اللا عمل واللا أمل. <<غصّت فينا بيروت>>. أستاذه الذي قاده إلى العراق كان من القلة التي حمل نور لها احتراما في بيروت. <<لا بد أن الأستاذ ظن أن كل شيء سيكون على ما يرام. إذ لا يمكن أن يرمي بي إلى المجهول هكذا!>> الساحة المخصصة لسيارات الأجرة العراقية، خلف السيدة زينب في ضواحي دمشق مزدحمة بالبشر، <<لا المسافرين>>. وأبو ليث الذي بدا نسخة أخرى عن صدام غدا يفيض حبا وترحيبا <<بلبنان وأهل لبنان>>. فمن اللحظة الأولى تطرق القلب عيون المراقبين. <<لا عجب أن العراقي يمكنه أن يلاحظ تفاصيل الأشياء من حوله أكثر من غيره من بني آدم>>، لعلها حسنة جديدة يمكن إضافتها إلى حسنات الديكتاتورية. هاندباك، كلٌ من الطفلين حمل حقيبة مدرسية، ومطرة ماء. وانطلقت الكابريس تنهب الأرض في رحلة ألف ميل. بعدما ترك الشام وراءه صار السائق أبو مصطفى أكثر لطفا وإنصاتا. كان يسأل عن تفاصيل كثيرة، عن كل التفاصيل. ثم قرر أن نور وعائلته سواح. <<السائق الذي يحمل ركابا إلى العراق لا يتركهم>>. كانت لهجته جازمة، ربما كما سمعها ممن سمعها. أطفأ السائق محركه أمام <<بحيرة البجع>> المواجه لقاعدة مجاهدي خلق. سلم أمانته لموظفة الفندق الأرمنية.. ومضى يرقص فرحا وبيده <<ورقة>>. دخل الخمسيني الأنيق إلى المكتب. انتفض الموظف ذو السبابة وأخلى الكرسي الكبير بعدما لبط الأرض بتحية عسكرية. نظر الرجل إلى نور الذي لم يتحرك. حيّاه، بدأ كلامه بلطف زائد. أعاد نور على مسامع الرجل ما كان قد قاله للموظف في بداية الممر. <<إقامة دراسية ..حوزوية>>. ابتسم الرجل ابتسامة يائس من نور. وبدأ سيل الشتائم والوعيد. شتائم بعثية ما أنزل الله بها من سلطان. ثم هدأ الرجل. بدأ من جديد. بدأت رجلا نور ترتجفان تحت قماش بنطاله الواسع. فالرجل كان يصف بالتفصيل ما يمكن أن يلقاه <<أعداء الأمة>>، لكنه أصر، يريد الحصول على الإقامة. شرح الرجل <<للجاهل أمامه تاريخ العراق الحديث>> وتوقف طويلا عند <<انتفاضة 91. وما فعله الخونة>>. لكن نور لم يفهم. وقف الرجل، حل ربطة عنقه المستوردة. بصق في وجه الشاب وتطايرت الكلمات من تحت شاربيه. أخذ يضرب الطاولة بيمناه راميا بأوراق مكدسة. تلاشت الصور من عيني نور. أحس بحبات العرق تتجمع على ساقيه منسابة إلى الأسفل. ذهب تفكيره المرهق إلى الشابة التي يحب، زوجته التي تركها بلا مال أو جواز سفر. إلى طفليه اللذين تركهما في مرقد العباس.. أتراه سيراهما مجددا؟ رآهما يقفزان على الأسرة في غرفة فندق سلسبيل في الكوفة.. يقفان جامدين أمام بسطة ألعاب مستوردة على باب مسجد السهلة.. يتراكضان فوق السواقي في حديقة الزوراء.. يصيحان بأعلى صوتيهما على الكورنيش الكوفة الضيق فيما تتلألأ الأقمار فوق الفرات. جمدت صورة المحقق اللئيم. دخل في إطار صورة صدام خلفه. وقف لا يستطيع أن يتخلص من أغنية تلح على دماغه بلا انقطاع <<لا خبر، لا تشَفيّه، لا حامض حلو لا شربت>>. شباك صغير يطل على بحر النجف. بحر من الرمال الساخنة، بحر لا ماء فيه.. كان سوق النجف يمر في مخيلة نور الذي يبحث عن فيش كهربائي مثلث، أكواب الشرْبَت المثلجة، طعم القيمر، مقهى بلال، آلاف العيون الجاحظة.. استدار لينظر إلى صورة ضخمة لصدام احتلت جدار الصحن العلوي، كان بلباسه العربي يحمل ذا الفقار وهو يبتسم عابسا، تماما كصورته على النقود. .. تلك النقود التي قطع طريق الكرادة خارجا من البدّالة العلوية حاملا كيسا محشوا بها. طار جوازا السفر من يد الرجل وارتطما بقوة بزجاج نظارتي نور فاستفاق.. استفاق ليدفن حلما أتى ليحققه. ركضت شوارع كربلا تحت قدميه. أدرك دفعة واحدة كيف يكون مصيره معلقا في يدي رجل غاضب.. سرق بعض هواء الغرفة، حمل الوثيقتين وتعثر خارجاً. خارج نفسه. خارج كربلا.. خارج العراق، خارج الوطن العربي لو استطاع.

Comments