أنت مجرد سلعة انتخابية .. ومن حضر السوق باع واشترى


أنت مجرد سلعة انتخابية.. ومن حضر السوق باع واشترى
عماد الدين رائف
السفير 15/06/2005
صعب على حاتم فهم السؤال الموجه إليه، يستفزه الموقف، يسأل: <<شايفني بنشرى وبنباع يعني؟>>. نعم، متى يحس أحدنا أنه عرضة للبيع والشراء في حياته اليومية؟ قد يبدو الحديث عن مفهوم السلعية عبر إسقاطه على واقع الشباب، وبخاصة أولئك الذين يضطرون يوميا أن يحتكوا بآخرين، قد يبدو ليس بالدقيق. لكنّ تراكم المشاهد اليومية على الطرقات تستدعي الوقوف عندها، وملاحظتها. على الأقل كي لا يبدو أحدنا كسلعة. سلعة، إن لم تكن معروضة في واجهة فقد تجد من يعتبرها كذلك.
سمسار وقت الفراغ
نعود إلى حاتم الذي كان يقف حائرا مع مجموعة من النساء. هو صاحب الفان الموكل من قبل جهة حزبية أن يقلهم إلى قلم الاقتراع، ثم يعيدهم إلى بيروت.. كان قد تخلص منهم بعد لحظات من وصولهم إلى الصندوق. حصل السائق على الورقة الممهورة من المسؤول الحزبي وتركهم، ليجتمعوا بعد اقتراعهم على الطريق العام في انتظاره لمدة ساعة في حرّ حزيران. ثم ليقتنعوا انه لن يعود. كان عليهم أن يحتفظوا بتلك الورقة التي تضمن عودتهم معه من محافظتهم البعيدة.. <<روح صاحب الفان معلقة بالورقة>> تقول إحدى النسوة المرافقات لحاتم. على بعد أمتار من المجموعة كان حسن، بائع العصير، لم يستفتح بعد <<أصبحنا وأصبح الملك لله>>. قالها العشريني بصوته الأجش من أثر أركيلته الشامخة قرب عصارة البرتقال اليدوية. سرعان ما برم رفراف الكاسكيت إلى الخلف وتحول إلى سمسار. توجه إلى أحد معارفه من أصحاب الفانات، الذين لم يتسن لهم أن يسجلوا فانهم على حساب أحد من المرشحين المتنافسين، ففضلوا أن يقضوا فترة الصباح في نوم طويل. تقاضى حسن ألفي ليرة بعد أن أمن للسائق المتكاسل عشرة ركاب إلى بيروت. عاد بالورقتين الزرقاوين بعد أن قبلهما، وهو يستبشر خيرا بنهار عمل <<استفتاحة مباركة من ابن حلال>>. يقول حاتم: <<باعونا اليوم مرتين.. تعودنا على ذلك>>. تضيف صديقته: <<انظر إلى الناس، لسنا هنا وحدنا.. كل هؤلاء الناس تركهم أصحاب الفانات وتراهم سيضطرون إلى الدفع من جيوبهم للعودة إلى بيروت>>. على مدى عشرات الأمتار كانت مجموعات كمجموعة حاتم تشير إلى السيارات والفانات العائدة المكتظة بالناخبين، بدون جدوى. نظر إلى بائع العصير العائد برفقة صاحب الفان، زم شفتيه بما يناسب الموقف، وقال: <<ما الذي يضمن أن لا يكون هذا الفان مخصصا لإحدى تلك المجموعات؟ يعني تركهم لكي يقبض منا؟>>. رفض عرض حسن، الذي خفض من سعر عصيره في حال اشترت المجموعة كلها منه. ركب في الفان واختفى.
صاحب الأيادي البيضاء
في بيتها المتواضع وقفت السيدة الأربعينية لتنظر إلى مرآتها للمرة الأخيرة قبل أن تتوجه خارجة في مهمتها. كان فراس، وحيدها العشريني، قد طلب منها مجددا أن تتأكد من عدد البطاقات الانتخابية الصفراء. أخرجتها من محفظتها مربوطة بمغيطة عريضة وأعادت عدّها من جديد، واحدة تلو الأخرى مرددة أسماء أولئك المواطنين التوب، أولئك الذين تخطوا عتبة الواحدة والعشرين، ونزلت أسماؤهم على لوائح الشطب وبالتالي صار بإمكانهم أن يظهروا على خارطة المرشحين الذين ليس عليها سوى الأرقام. رددت أسماء أولئك الناس ودرجة قرابتهم لها، أو طبيعة معرفتها بهم، وذلك ليعرف ابنها لمن سيرد الجميل في المستقبل غير البعيد ..<<ثلاث عشرة بطاقة، كرمال عيونك>>. نظرت إلى وحيدها نظرة عتب، نظر الشاب إلى الأرض وكأنه يكلف والدته ما لا سابق خبرة لها به. إذ سرعان ما ستتحول الوجوه الناظرة من البطاقات إلى أرقام على مكتب مرشح المنطقة، إن قبل بعرض أم فراس أن ينقذ ابنها من ورطته. يرفض الجامعي الأسمر أن يتحدث عن تفاصيل الورطة، التي استدعت من أمه بذل كل تلك الجهود المضنية . يقول: <<جالت أمي على العائلة والأصدقاء لتجمع تلك البطاقات.. قالوا لها إن عليها أن تتوجه إلى الأستاذ المرشح ففعلت ذلك من دون أدنى تردد>>. صاحبنا، كغيره، يرفض أن يتحول إلى سلعة. إلى رقم على لائحة تستعمل فيها عملية حسابية واحدة، هي عملية الجمع. كل أصحاب البطاقات الانتخابية، أولئك الذين سيجبرون بطريقة أو بأخرى أن ينتخبوا صاحب الأيادي البيضاء، الإنساني رقم واحد.. يرفضون كذلك أن يتحولوا إلى أرقام.. ولكن ما باليد حيلة.
غيض من فيض
رفضت هدى أن تترجل من السيارة أول الأمر. طلب منها السائق الأربعيني ذو الوشم الكبير أن تنزل لتركب في سيارة أخرى. قال: <<لا يمكنني أن أوصلك وحدك.. الله ما يسّر شو بعمل لك؟ ما في ركاب>>. نادى السائق من شباكه، بدا وكأنه يستمهل صاحب سيارة أجرة أخرى.. <<عالجاموس.. خود معك>>. ولكن الفتاة فهمت أن الآخر صديق له وهما يعملان معا. إذ انها في المرة الماضية لم تكن لوحدها في السيارة فتحجج <<أبو وشم>> نفسه بأن سيارته تعطلت وخلق صديقه الملتحي من تحت الأرض ليقلها وصديقتها. لم تنزل الفتاة. أسمعها السائق كلاما نابيا. نزلت ووقفت على الرصيف وهي تشتعل غيظا. رفضت أن تركب في السيارة الأخرى. فهي تعرف أن الأمر مدبر.. <<الأول يجمع ركابا للثاني.. شطارة!>>. بعد أن تقطع حدود الضاحية المتعارف عليها يندر أن تجد سيارة أجرة تعمل على البنزين، فالبنزين غالي الثمن بالمقارنة مع المازوت.. و<<إذا كانت نصف الطريق على البنزين ونصفها الآخر على المازوت فبتوفي>>. وهكذا يمكن لشراكة بين سائقين أن تنتج غلة لا بأس بها آخر النهار، لا سيما أن أكثرية الركاب الساحقة ليست من طينة هدى، التي تخرجت منذ سنتين، ولما تجد فرصة عمل. فالراكب يهمه أن يصل إلى مكانه المقصود وطريقة السائق <<أبو وشم>>، ليست مضرة بنظر كثيرين، فلم هي مضطرة بنظر هدى. تقول: <<لا أقبل أن أعتبر سلعة أنتقل من شخص إلى آخر تحت أي عنوان كان.. مش كل الطير اللي يتاكل لحمه>>. يمكن لأحدنا أن يلملم عشرات القصص المشابهة من محيطه. يكفي أن تمضي يوما واحدا في ورشة لتلاحظ كيف يستأجر صاحب الورشة كومبرسور بعشرة دولارات لساعة، وفي نفس الوقت يستعير عاملا غير محتسب الأجرة من معلم آخر ليعمل على الآلة المستأجرة. كيف يبيعك أحدهم خزانة وهي ما زالت خشبا ملقى على الأرض ولم يشتر خشبها بعد، يكون الشاطر قد تقاضى عربونا وبدأ بتأجيل موعد التسليم من لحظة حصوله على المال. يكفي أن تتواجد في مكتب لاستقدام الخادمات كي تعرف كيفية مقايضة الأثيوبية بالفليبينية وما هو فرق السعر. يمكنك أن ترى أحدهم وهو يحمل بيده دستة من الباسبورات، يستعملها كمروحة يدوية في بداية فصل الحر. كذلك يمكن لأحدنا في أية لحظة أن يتحول إلى مشروع سلعة بنظر أي تاجر، أو تويجر شاطر.. أو حتى ربة منزل، ألا يكفي أن تعرف أن جارتك تقصد الخادمة، ذلك بعد أن تسمع صراخها المزعج صباحا من شباكها عبر الشارع إلى صديقتها: <<عيريني إياها شي ساعة>>. يمكن تبرير كل ذلك ببساطة، أننا زدناها <<حبتين>>، و<<أن البلد ماشي على ذلك، والناس عايشة والحمد لله>>، كما يقول صاحب الورشة. وقد لا يمكن تبرير كل تلك المواقف ببساطة. لكن على أي حال، توجد أغنية موجهة للأطفال عبر شريط كرتون روسي تقول: <<إن الكلاب لا تعض إلا نتيجة لعيشة الكلاب التي تحياها>>. وبالتالي يمكننا أن نتهم السلطة أو الدولة أو الحكم أو الاستعمار أو أي طرف آخر غيرنا، نتهمهم بتحويلنا إلى أناس مهمتهم تحويل شركائهم في الوطن إلى سلع.

Comments