أنو ياسين.. وناهدة وأخواتها


أنور ياسين.. وناهدة وأخواتها
عماد الدين رائف
السفير 08/06/2005
على أنغام موسيقى صاخبة، تخرج من سبيكرات الأبواب، انطلق الفان من أمام الخيمة الأترنيك. تبع الموسيقى غناء. <<حَلاَّ يا بري حَلاَّ... الدنيا بدنا نحتلا>>. انطلق الفان نحو الجنوب في يوم طال انتظاره بالنسبة إلى يحيى. يحيى صديقي، كان قد أمضى يوميه الأخيرين في محاولات مستميتة للوصول إلى صندوق الاقتراع البعيد ليسقط فيه ورقته. ورقة صغيرة، أراني إياها عدة مرات، كتب عليها بخط يده الرديء اسما واحدا. اسم مرشح واحد... مر يومان كادا أن يستنفدا ما تبقى من أعصابه. أراني جيبه المثقوبة الفارغة أيضا، كان يخرج وسطى يده اليسرى من ثقب جيب بنطاله، شاتما إياي، وهو يتهمني بالعمالة للرجعية. تعجبت كيف أن ورقته العزيزة ظلت عصية فلم تنزلق في الثقب على اتساعه وتضيع؟ كنت أحاول أن أفهمه أن مقاطعتي للانتخابات مع كوني قادرا على الوصول إلى الصندوق الحلم لا تضعني في خانة الرجعية... ثم إن مصطلح الرجعية صار باليا ولم يعد يستعمله <<أحد>> على حد علمي. لكنه كان قد تخطى مرحلة الاستماع إلى الآخر، واكتفى بلحنه الداخلي. تحسس ورقته الصغيرة التي لم تفارقه منذ كتبها، استعاد معالم الطريق مرورا بصيدا ثم الباص... وصولا إلى قريته حيث يرقد الصندوق بانتظاره على طاولة في صف مدرسة رسمية. أطلق سائق الفان العنان للصوت الصادر من المسجلة... <<ما بدنا كرسي واحد... بدنا الكراسي كِلا>>. انطلق على الطريق الساحلي ينهب الأرض وإلى جواره تطير الفانات والسيارات الملونة بالصور والأعلام الخضراء والصفراء. كانت تطير في سباق ينهش من ذاكرة يحيى ويعيده إلى البداية. البداية سنتان مرتا عليه وهو يفكر بالكلام الصريح الذي صدر عنه. كانت ناهدة، زميلته في العمل، قد طرحت عليه سؤالا واضحا عن انتمائه العقائدي. لأول مرة نطق صديقي بكلام مفهوم أمامي. قال حينها: <<60>>. هو قال: <<لا أدري>>، أي انه لا يدري ما الذي يملأ ال25 في المئة الباقية. على الرغم من تعقيداته البالغة ومن عدم فهمي لمواقف عديدة صدرت عنه منذ انهياره بعد انهيار متاريس الشيوعية، على الرغم من اتهاماتي المتواترة له بالهرطقة والنفاق... إلا أنني عندما سمعته يبوح لزميلته اليسارية بتلك النسب ارتحت. كنت على يقين من صدقه حينها. صاحب صدقه غناؤهما معا ل<<سايس حصانك عل الأنا وتعال>>... فازداد الموقف رهبة. مرت السنتان ولم يستطع ولو لمرة واحدة أن يوظف انتماءاته في المكان المناسب... ولو لمرة. فبدل أن يكون ماركسيا مع الماركسيين، أو أشباههم، كان يظهر تصوفا والتزاما دينيا غريبا. وبدل أن يكون معي كان يردد عليّ ما تعلمه من دروس في الإلحاد أتى بها من مدرسته الشمالية الشديدة البرودة، إلى حد الزرقة... واستمر على هذه الحال إلى أن كتب تلك الورقة <<اللعينة>>. كتبها واتصل بناهدة. استعار الخلوي الخاص بي وجاد بالوحدات المتبقية. ناهدة المخلصة لعقيدتها لم تعلق على نسب الانتماء العقائدي التي باح بها يحيى قبل سنتين، ولكنها صدقته. أتى صوتها عبر الهاتف، بعد كل هذه المدة، وكأنها خارج الأبعاد المعروفة. خاف يحيى أن تكون قد خرجت عن صفائها العقائدي الذي بوّأها أسمى المراتب عنده بين معارفه اليساريين. تلك المقاومة، الأسيرة غير المحررة. تلك المنتصرة دائما بابتسامتها الساخرة، عرف منها أنها لم تعد تعمل في مجال الانتخابات... وبالتالي لن تفيده في الوصول إلى حيث أراد. تذكر حينها انه يهدر وحداتي فقطع الاتصال <<باي... برجع بتصل>>. الصندوق الطريقة الوحيدة المضمونة لوصوله هي الاتجاه إلى الضاحية. من المكتب الرئيسي لدائرتي الجنوب إلى المركز الفرعي الذي يضم قريته مشى، وصل متعبا ليعرف أن عليه أن يتصل ب<<رقم>>. اتصل به ليعرف أن عليه أن يؤمن سيارة ثم يصل إلى باحة عاشوراء في صور ليحصل على بونات بانزين!! ولكنه لم يستوعب كيف؟ فهو أتى إلى المكتب لعدم توفر سيارة بين يديه. كان عليه أن يقطع الأمل من الفريق الأول ليتجه إلى الفريق الآخر في الضاحية. فهم انه سينتظر حتى صباح نهار الانتخاب لينطلق... ففعل. وها هو في الفان المزين بصور وأعلام اللائحة التي لن ينتخب أحدا من أعضائها يتجه جنوبا مع ذكرياته. في المدرسة الرسمية كانت الفوضى المنظمة لمناصري <<اللائحة الرابحة حتما<< توزع الأوراق. أخذ بعضها ودسها في جيبه المثقوبة فسقطت على بعد أمتار. خطا خلف الساتر بعد أن استلم ظرفه. أخرج ورقته المجعلكة من جيبه. نظر إلى الاسم ليتأكد منه: <<أنور ياسين>>. ابتسم ودسها في الظرف. ضغط على الظرف ليضمن نومها المرحلي هناك... أسقطها في الصندوق، خرج إلى الباحة وجلس على الحافة ليفكر. مرت به إحدى مندوبات اللائحة البرتقالية... شكرته على تصويته للأسير المحرر... مرت أخرى واتهمته بتضعيف اللائحة لعدم تصويته لغيره. جلس ليفكر... للمرة الأولى وافق فعله ما ادعاه من انتماء. كان ماركسيا في الوقت المطلوب في المكان المطلوب. أكان صائبا ما فعله؟ لم يقدر أن يحدد. ظلت فكرة واحدة تدور في ذهنه وتلح عليه بدون توقف. هو لا يعرف أنور الذي اكتسب صيته من اعتقاله وتحرره من القيود بعد سنوات الأسر الطويلة. كل ما يعرف عنه أتى من خلال ما صورته له ناهدة وأخواتها... أولئك الذين قاوموا وأسروا واستشهدوا... وأقصوا وأهينوا أحياء وأمواتا ولم يعرف عنهم أحد شيئا... ولم يعد لدى أحد من الوقت متسع ليعرف عنهم شيئا. أولئك الذين لهم مع كل شجرة وصخرة وورقة توت جنوبية حكايا وذكريات وآلام. ماتت آمالهم ولم تمت الذكريات... <<أتراني تنكرت لهم؟ ألم يكن الأجدر بي أن أكتب اسم ناهدة على الورقة قبل أن أرمي بها في الصندوق؟>>.

Comments