بحجم البحر وموجاته يا أبي


بحجم البحر وموجاته يا أبي
عماد الدين رائف
السفير 26/01/2005
كبرت سهير التي حملت اسم عمتها المتوفاة في نفس سنة ولادتها. صارت في الجامعة. حلمت لسنوات طويلة بلقاء والدها الذي يكدح في
افريقيا. كانت تخصص وقتا قبل النوم لذلك الحلم الجميل. كيف سيكون اللقاء؟ أي ملابس ستختار؟ وكلما مرت أيامها البطيئة تغيرت الملامح المرتسمة على مرآتها. كانت تغير الملابس والتسريحة. تقضي ساعات أمام مجلات صورت على صفحاتها نساء في أزياء مختلفة، حتى العطر اتخذ له وصفا مختلفا كل مرة، واستمر الحلم. لكن الكادح لم يأت ولو لمرة واحدة طوال تلك السنين. لم يراقب ابنته في حركات وسكنات نموها. وقد كان بإمكانه، لو كان موجودا في البيت، أن يلخص تلك الحياة في مجموعات من الصور. صور رتّبت بعناية على حائط مخصص لها. أخرى في براويز صغيرة على رف صغير قرب الباب. مجموعة ثالثة في إطارات خشبية أنيقة على رفوف خزانة، حُشرت بين تلك الصور تماثيل صغيرة من العاج لفيَلة ودلافين. تتحول في أولها من طفلة وديعة ذات ضفيرتين، بشريطهما الأصفر ومريولها المدرسي الزهري، إلى شابة جامعية، في آخرها. شابة تحلم <<بشهادة معلقة على الحائط>>، أو ربما ستحشرها بين تلك الصور. أخباره كانت تصل إلى البيت في مكاتيب ملونة أطرافها بالأزرق والأحمر. لم تحمل تلك الرسائل أختاما أو طوابع. كانت تصل <<محمولة بيد أحد القادمين الذي يملأ الصالون بدخان سجائره>>. تحاول الأم أن تطيل فترة مكوث القادم قدر المستطاع. <<أن تبقيه في الصالون ليدخن أكثر>>. تتأمله بهدوء، تحاول أن ترى فيه أمل عودة من هجرها وأطفالهما بحجة الرزقة، ثم تنهض فجأة لأنها نسيت واجبات الضيافة. <<يا عيب الشوم، كيف شردت. شو بيقول عنّا الزلمه؟>>. تقف الأم قرب باب الصالون لتأخذ نفسا عميقا من دخان الغرفة اللذيذ، ترقص فناجين القهوة فوق الصينية الفضية، تمسح بكمها دمعات. <<يتكرر هذا المشهد كلما أتانا أحد برسالة منه>>، يأخذ هذا المشهد، الذي لم يوضع في إطار على أي حائط، مكانا خاصا في ذاكرة الفتاة لأنها عجزت في كل مرة عن تفسيره. <<كانت لا تنسى أن تأخذ لنا صورة مع الرجل ليحملها معه في رسالتنا يوم يسافر>>. يصل مع المكاتيب بعض المال أو كثير منه. <<حسب حركة التجارة بالماو ماو!؟>>. يصل مال للبيت والطعام وأقساط المدرسة ولشراء هدايا <<لا وقت لديه لشرائها!>>. لكنه لم يصل به الحنين إلى درجة العودة. <<ليطلّ علينا.. ويقول كيف صاروا؟>>. الأم لم تقصّر في إرسال صور لأطفال عابسين وأشرطة مسجلة على الوجهين لأصواتهم. صور باهتة التقطت خصيصا بهدف إرسالها إليه. كاميرا الأم هي <<الزينيت 18>>. مازالت تعاملها كقطعة أثرية. تحرص على لفها بعناية في بيتها الجلدي ذي الكبسة الفضية وتضعها في مكانها، على رفها الخاص، فوق التلفزيون. <<كانت تجبرنا على الجلوس أمامها لترديد عبارات تهمس بها في آذاننا. كيفك بابا، أنا سهير، أنا بحبك كتير. قد البحر وموجاته. ناطرينك. قالت ماما إنك رح تجي عالعيد>>. وكلما رأت منا التفاتة أو نظرة تستحق التصوير سارعت إلى التقاطها. تجمد اللحظات وتحولها إلى ورق ليراها المنتظر عندما يأتي. كبرت الفتاة وعرفت الكثير. عرفت انه لن يرجع <<وكل وجع القلب كان عالفاضي>> عرفت أن سفر أبيها ليس كسفر أبي صديقتها ناهد. تلك التي قيل لها إن أباها سافر. لكن إلى ربه. كبرت حتى على حلمها الطويل. عندما استلقت البارحة على فراشها، كانت تدرك أن مئات العيون المفتوحة من خلف زجاج الإطارات، تلك العيون التي كانت تحدق في عدسة لامعة، ستبقى مفتوحة إلى أن تبهت. فأغمضت عينيها. ابتسمت ونامت بلا حلم.

Comments