عندي سكين في مخيم شاتيلا ... فليأتوا ويأخذوها

رسم الزميلة الفنانة أمل كعوش

<<عندي سكين في مخيم شاتيلا فليأتوا ويأخذوها>>
عماد الدين رائف
السفير 06/04/2005
هم لاجئون. تناولتهم الخطابات والندوات والمحاضرات والقرارات لعقود من الزمن. تناولت تفاصيل حياتهم اليومية وما ينبغي أن تكون عليه وكيف. هم أصحاب قضية تحولت إلى قضايا، وكثرت الفرضيات والنظريات حول معاناتهم الدائمة خارج حدود وطن لم يروه. وكثيرون منهم لم يره آباؤهم إلا عبر شاشاتهم الصغيرة. يختلف الحديث الداخلي بين الفلسطينيين عما يبوحون به لك عند توجيهك لسؤال مباشر. فهم لهم شجونهم التي تزيد عن معاناة اللبنانيين اليومية في بلدهم الذي يحملون هويته البلاستيكية، وما زالت البطاقة الزرقاء الورقية التي تصدرها هيئة شؤون اللاجئين تميز هؤلاء الشبان عن محيطهم الذي ينظر إليهم نظرات متفاوتة الحدة. يجيب الشاب وهو يسترق النظر بطرف عينه إلى عيون الآخرين عند كل كلمة تخرج من فيه <<أنا لا فرصة لي في هذا البلد. أنت تعرف كم من الوظائف محرمة علينا نحن الفلسطينيين. الحياة بالنسبة إلى اللبنانيين جحيم، فكيف بالنسبة إلينا؟!>>. هذا الكلام تسمعه من الجميع، من العامل والعاطل عن العمل، من المتعلم ومن الذي لم يكمل الابتدائية. <<لكن ماذا عن نزع سلاح المخيمات وإشاعات التوطين؟>>. <<إذا كان التوطين يعني أن نصبح كاللبنانيين في حياتهم فهو عرض مضحك مثير للسخرية>> يقول كمال الذي يقف ساندا الحائط لجزء طويل من النهار. <<ما الفرق بيني وبين نزار في التنبلة؟>> يسأل مشيرا إلى صديقه اللبناني الذي يساعده في <<مهمته>> اليومية. أما أحمد الذي تعود أن يهضم الإشاعات فيأمل <<أن تفتح أبواب السفارات له ولأخوته الخمسة لكي يروا يوما واحدا جيدا على وجه الأرض.. بخاصة إن كانت هجرة إلى أوروبا>>. يتجاوز سخرية أخيه محمود <<روحْ هاجر على سوريا بتفتحلك بوابها>>، ويقول ساخرا <<شي منيح إنو تكون فلسطيني، بيضل عندك أمل تغير وضعك، أما عن العودة إلى فلسطين فيبقى حلما لن يتحقق>>. <<أنا شخصيا لا أملك سلاحا، ولا أعرف تحديدا ما الذي يعنيه القرار من نزع سلاح الفلسطينيين؟>> يتدخل معتز. <<معظم البيوت اللبنانية فيها أسلحة، وقيل انه يوجد مخازن أسلحة، إيشْ معنى قطعتين سلاح بالمخيمات؟>>. يوافقه عائد: <<كلما ذكر موضوع نزع أسلحة المخيمات تعود إلى الذاكرة مجزرة صبرا وشاتيلا.. حتى ولو كان السلاح وهميا فإنه من الجيد الكلام عن سلاح المخيمات حتى لا يعود شبح المجازر.. السلاح قد يكون رادعا لمن يفكر بأذية الفلسطينيين>>. يمنحك العشريني فرصة ليصلك ما قاله <<فهمت كيف؟>>. تحاول فعلا أن تفهم كيف. تقودك كل الزواريب إلى المخيم. فوق كيلومتر مربع واحد يعيش هؤلاء بأحلامهم وآمالهم، <<حياة المخيم فيلم رعب حقيقي، لا أقصد الأمن أو الجرائم لا سمح الله، لكن الحياة نفسها يا أخي، الحياة بمقاييس غير بشرية>> يفتح فراس عينيك على ما احتوته الأزقة من عتمة في وضح النهار يقودك عبر دهاليزها ليخرج بك قرب مستشفى حيفا. كان قد تسنى له أن درس في أوروبا الشرقية وها هو يعود إلى المخيم، عمله الذي يستحي أن يفصح عن ماهيته وبيته الشبيه بمكعب إسمنتي، وآلاف الأسباب الأخرى تمنعه أن يبقى لساعة واحدة اخرى في لبنان <<لكن ما باليد حيلة>>. <<لا وقت لدي للتظاهرات والحوارات، يكفيني أني لا أعمل ضمن اختصاصي وقبلت بعمل يدوي بأجر ضئيل لأعيل أهلي>> يساعده صديقه راغب المجاز أيضا، بعد أن انضم إلى المجموعة المتنزهة فوق طريق نسي طعم الزفت <<كلما كنا نأمل أن نعود إلى الداخل يعني فلسطين كان يموت هذا الأمل، أما عن التوطين فلا أقبل بالجنسية اللبنانية>>. ثم يبرر لك موقفه المفاجئ <<إذا لم يسمحوا لي بالعودة إلى يافا، فأي جنسية أوروبية قد تخولني أن أعود إلى بلدي بشكل أو بآخر أما الجنسية اللبنانية فهي سوف تقبرك هنا مرة وإلى الأبد>>. تخرج بك الطريق من الباب الغربي للمخيم قرب صور كبيرة لأبي عمار والشقاقي وياسين. على بعد عشرات الأمتار من محطة الرحاب باتجاه مخيم شاتيلا تطالعك مقبرة تضم الآلاف ممن قضوا في مجزرة صبرا وشاتيلا. هي مقبرة جماعية تبدو بطلاء جدرانها ولافتاتها أنظف بكثير من الشارع الموزع بين الباعة المتجولين والبسطات وأكوام النفايات. <<لن أبقى في لبنان سأعود إلى فلسطين، ب1559 ولا بأي قرار دولي آخر لا حل للقضية إلا بالمقاومة>> تقول سميّة وهي تعدل من وضعية حجابها <<يعني شاتيلا أرحم من عين الحلوة والرشيدية؟؟ الحياة في المخيم لا تطاق والفلسطينيون صاروا قلة في مخيمهم>>. ليس من السهل معرفة معالم المخيم الذي تتلوى أزقته عن يمينك بين هياكل أبنية. <<أين يبدأ مخيم شاتيلا وأين ينتهي؟>>. تجيبك سميرة بابتسامة ماكرة. <<ما هو من ال85 ما عاد في مخيم إسمو شاتيلا>>.. يتداخل المخيمان ببعضهما البعض وتختلط اللهجات السورية بالمصرية بلغات آسيويين فيما يعرف بسوق الفقراء في صبرا. داخل البيت تختلف لهجة مروان اختلافا كبيرا عما اعتدت أن تسمعه من لهجة بيروتية خالصة تتفاجأ حالما تعرف انه فلسطيني، فهو يكلم والدته الشديدة السمرة بلهجة هي أقرب إلى المصرية. <<كنا نقضي سهرات طويلة للتندر ومحاولات لاستذكار الكلمات الرفحية القح مع جدتي رحمها الله>>. ينظر إلى الدخان المتصاعد من إبريق القهوة <<جدتي ماتت وهي توصينا أن نعود بجثتها إلى فلسطين بعدما نحررها بإذن الله، إشو بدك ياني أخلف وأربي بلبنان، فلسطين بلدنا من البحر للنهر؟>>. تغمض الأم عينيها على ما يشبه الحلم.. <<الله كبير>>. <<أختي تزوجت من لبناني وحصلت على الجنسية.. ما الفرق فعندما كانت فلسطينية هي بدون عمل والآن بدون عمل. الذين يعملون هنا هم السيرلنكيات والهنود الذين يستشهدون في الانفجارات>> تحاول أن تستخرج عبارة جدية واحدة من كلام مروى ذات العينين الواسعتين، تحمل كراسة جامعية وبعض <<الكورات>> المصورة <<عندي حربة كلاشنكوف فليأتوا لينتزعوها مني إذا بيقدروا!>>. على الرغم من انعدام الثقة بالسياسيين والمتسلقين على ظهور أهل الداخل والشتات، فإن أبا خالد لا يصدق <<أن أحدا يمكنه أن يساوم على حق العودة لللاجئين إلى دورهم وديارهم التي تركوها أو تركها آباؤهم>>، يشعرك وأنت تكلمه بوقع دلالة الكلمات ونغماتها. أنيق اربعيني ملتح. <<قدمنا الكثير فما الذي يجبرنا على القبول بالقليل في المقابل؟>>. يعبر الشارع برفقة سعد من منزله باتجاه أحد المساجد الصغيرة. يقول سعد <<قد نبدو مستسلمين لما يحاك ضدنا، بخاصة أن الإعلام الآن موجه نحو الوضع الداخلي في لبنان.. لكننا لن نستسلم لأي ضغوط مهما كان حجمها>>. يضحك إبراهيم ويزيد العيار <<هوّ اللي عايش عيشتنا بعد تنفع معه ضغوط؟ أنا بصراحة مع المقاومة. مع السيد (حسن) نصر الله، مش عم بنزل علْ المظاهرات، بس سبحان الله هادا الرجل هوّ الصح>>. يقودك شارع صبرا الرئيسي إلى خارج المخيم، يردد قاسم كلمات شاعر فلسطيني <<خرج الطريق من المخيم فانحسرت بلا طريق>>، يفضل أن يعود إلى داخل المخيم بعد أن أعلنت الشمس عن مغيبها متحججا بصلاة المغرب. تتركه لتعود إلى <<مخيمك>> البعيد بعد أن تتمنى له أن يصبح على وطن.

Comments