حربنا التي لا تنتهي

عماد الدين رائف
السفير 20/04/2005
تعود اللبنانيون في السنوات الثقيلة التي مرت بعد النهاية غير السعيدة للحرب الأهلية على سماع عبارات مثل: السلم الأهلي والانصهار الوطني والوحدة والسيادة وغيرها. كثيرون صدقوا وركبوا موجة إعادة إعمار البشر والحجر، وكثير لم يصدقوا لكنهم ركبوا تلك الموجة. أما القلة التي لا صدقت ولا ركبت فما زالت موجودة. هل هم مرضى؟ هل هم ضحايا؟ هل هو نوع من الرهاب خاص بهؤلاء من دون خلق الله؟ وهل هم قلة حقا؟ لن يجيب أحد على هذه الأسئلة وغيرها بوضوح ودقة. ستبقى عالقة ما بقوا يرددون أقوالهم. فما هي هذه الأقوال؟ وليد وأخوته <<خفت يا زلمه! أحسست أني لست في بلدي>>. كان وليد قد بدأ يسرد لرفيقيه كيف أن سائق السرفيس استأذنه أن يقل راكبا إلى نزلة العكاوي، وآخر إلى برج حمود، قبل أن ينطلق به إلى الطيونة عبر سامي الصلح حيث أراد. وافقه الرفيقان في كثير من مشاعره وهواجسه، لم يسب أو يشتم. لم يشعرك أنه يحقد على الآخر أو يتمنى موته، بل قال: <<صارت رجلي اليمنى ترتجف، أنا عم حاول إحكي مع الشوفير كأنه ما في شي>>. إنه خائف من مجهول. من مجهول يقبع على بعد شارعين منه، فقط خائف. يحاول أخوه مروان الذي يصغره بسنوات أن يثنيه عن آرائه: لا يمكنه أن يصدق أننا نسهر معهم ونأكل من نفس الصحن... أخي مريض. ولكنه ليس رأيا الذي عند وليد. إنه شعور. لقد عمل في الأردن والتقى هناك <<بالآخرين>>، وتعامل معهم، أما هنا في هذه المدينة فلا. لا يمكنه ذلك بكل بساطة. يقول: <<هناك، أنت غريب وهم غرباء، ربما، يمكنك أن تتعرف إلى اللبنانيين وستتكلمون جميعا عن لبنان الجميل والحنين إلى الوطن. أما هنا فتعود كل الذكريات المرّة لتحضر أمامك. وكأنها حدثت البارحة>>. مرت السنوات سريعة بين اتفاق الطائف الذي تضمن بنودا لم يسمع عنها لا هو ولا رفاقه عن إلغاء الطائفية. خدم أخوته الذين يصغرونه سنا خدمة العلم والتقوا بالآخرين. <<كنت أستمع إلى أحاديثهم عنهم وعن رفاقهم وأضحك، هذا الكلام كذب، لو كان صحيحا أنهم كلهم أخوة لأتى أحد أولئك الأصدقاء الحميمين لزيارة أخوتي، أو لذهب أحد أخوتي إليهم على الأقل!>>. أحمد والشلة أحمد مجاز في الأدب العربي، عاطل عن العمل يقف مع شلة من الشبان ذوي الأفكار المتقاربة لمناقشة قضايا الساعة. يباغتهم السؤال: <<مم تخافون؟>>، يخيم الصمت على الشبان وهم ينظرون إليك نظرة فاحصة، كان السؤال المباشر البسيط ينتظر إجابة، لكنها لم تكن موجودة عندهم. <<لكن لماذا؟ لماذا ليس بإمكانكم أن تخرجوا من هذه الحالة المسيطرة عليكم؟>>. يتأكد أحمد، بطريقة ما لم يفصح عن ميكانيزمها من أنك تمثل عليهم. إذ انه لا يمكنك أن تكون محايدا في نظره. فلا يوجد محايد بين أناس عايشوا القصف والجوع والحياة بين الهدنة وأختها ووقف إطلاق النار. يضيف الشاب متأكدا من وجهة نظره: <<يعني بدك تفهمني إنك إن ذهبت إلى هناك تشعر وكأنك في بيتك؟>>. بطبيعة الحال لا أحد يشعر انه في بيته إلا إن كان الإنسان فعلا في بيته. <<كل الدعايات عن الفنادق العالمية حول شعور الإنسان انه في بيته كذب>>، لكن المسألة هي في رصد هذا الشعور الإنساني الذي هو الخوف. الشعور بعدم الأمان الذي يجمعنا بالحيوانات. ليست المسألة تحليلاً نفسياً أو فلسفة الخوف نفسه، لكن الشاب لم يكن ليصغي إلا لشعوره الداخلي الذي لا يفتأ يوعز لغدده بإفراز الأدرينالين كلما ذُكر الآخرون ومناطقهم أمامه. يغمض الشاب عينيه، ويقول <<قال انصهار وطني قال، يا عمي كذبة أول نيسان. شو بدك بهالحكي>>. سامي والمجموعة سامي، صاحب محل بيع قطع سيارات، حاول أن يلطف الجوّ قائلا: <<المشكلة ليست فينا، لم تسمح لنا طبيعة حياتنا أن نلتقي معهم. نحن هنا في هذا الجزء من المدينة. وأعتقد أن هناك كثيرون مثل حالتنا هناك>>. يقول إن <<المسؤولين جميعا قد تواطأوا معا لإبقاء حالة الحرب مسيطرة على نفوس المواطنين>>. لا يمكن أن تزول الطائفية من النفوس، هذه مسألة محسومة عند مجموعة سامي التي تلتقي عنده في المحل بعد الظهر للعب الورق والتنكيت. كلهم يعتبرون أن النواب والوزراء ممثلون حقيقيون يجب أن ينالوا جوائز دولية في فن التمثيل، <<كلهم كذابين دجالين، وإلا ماذا يمكنك أن تسمي اثنتي عشرة سنة مرت على لبنان بعد ما قيل انه نهاية الحرب الأهلية؟>>. يضيف الثلاثيني: <<لا مجال للسخرية هنا، لكن إن أردت أن تبني سلماً وطنياً بين اللبنانيين يجب عليك أن تعزلنا عنهم>>، ثم يتطرف أكثر في اتخاذ مواقفه فيقول: <<يجب ألا تجعل من مجال لأحد أن يتأثر بنا، أي أن تعزلنا عن الناس. ثم يجب أن تنتظر جيلنا ليموت، ثم تبني لبنان الجديد تبعك>>. توافقه المجموعة بالدربكة على الكراسي البلاستيكية. جميل وخطيبته في الشركة حيث عمل لسنوات، وبعد أن قبل أيدي زعيمه المفضل ودخل بواسطة، لم يستطع أن يستمر في عمله ذاك لأنه ببساطة لا يطيق أن يكون في مكان واحد <<معهم>>. يقول: <<تجدهم متضامنين حريصين على مصالحهم. في أية مشكلة صغيرة أم كبيرة يقفون مع بعضهم البعض>>. أما خطيبته التي تسخر منه في معظم الأحيان فلا توافقه: <<شو بدك فيه، كان يأتي كل يوم ليسرد لي معاناة غير واقعية فأقول له انه يجب أن تتأقلم وتستحمل>>. لكن جميل الذي لم يستحمل، يعجبه كثيرا أن يتكّس على سيارته التي استأجر لها نمرة حمراء بين زواريب بيروته التي يعرفها تمام المعرفة. أما <<بيروتهم تلك>> فلم يضطر يوما إلى التوجه إليها. وإذا، لا سمح الله، أتاه راكب مفترض وذكر اسم منطقة تقع هناك، فإن لم يسبه فقد جهز بعض العبارات التي تتوافق قوافيها مع الأسماء الغريبة. يقول: <<أنا ربيت على هذا النمط من التفكير، وأعتقد أنني سمعت من خطيبتي والست أمها ما يكفي خلال السنوات الثلاث الأخيرة حول الوحدة الوطنية وطق الحنك. نحن نحصد فشل المسؤولين. نحن نحصد فشلنا في التعامل مع هؤلاء المسؤولين الذين لم نخترهم أصلا إنما فرضوا علينا>>. غالب ورفاقه هو على يقين، ومنذ لحظة اغتيال الرئيس الحريري، أن الحرب عائدة. بدأ الشيب يغزو رأسه مبكرا، يعمل في إحدى المؤسسات ذات اللون الواحد. يقول: <<كنا ننتظرها أي شرارة الحرب بعد كل لعبة كرة قدم أو كرة سلة. بعد كل تظاهرة هناك ونزول الجيش والضرب ولمّ الشباب عن الطرقات. بعد كل انتخابات ملفقة... ولم تأت، إذ كان الضمانة الشهيد الحريري رحمه الله. أما الآن فهي مقبلة لا محالة>>. يتدخل سعيد الذي لا يوافقه الرأي: <<هذا كلام فارغ، لقد أدرك اللبنانيون عدم جدوى الحرب الأهلية، لا أحد مستعد للعودة إلى الوراء>>. يكمل غالب كلامه وكأنه لم يسمع شيئا: <<بكرا بتشوف، الناس لابسة وجوه، الناس كذابين، هل تابعت حلقة مارسيل غانم؟ هل تابعت حلقة بن جدو على الجزيرة؟ الناس موجهنين، إنهم يكذبون، إنه كلنا إخوة إيه!>>. قد يوافقه كثيرون على بعض أفكاره من انه يوجد أناس ذوو وجوه، لكنْ هناك من الصادقين ما يكفي لنبني وطنا. غالب لا يستمع إلا إلى ندائه الداخلي الذي يحذره من الآخر المخيف دائما، فما هو الحل؟

Comments