عيد العمال بلا عماله

عمال بناء في ورشتهم خلال عيدهم الذي يتجاهلونه
عماد الدين رائف
السفير 04/05/2005
بعض الأعمدة المنتصبة بلا سقف هناك تنتظر أقرانها <<المطوبرة>>، هذه الحصيرة الإسمنتية على مقربة منها هنا تسقى بماء عذب بانتظام. كل تلك الكمية من الأخشاب والدعائم الحديدية والأحجار. كل تلك القضبان الحديدية المسندة إلى <<حجر عشرين>> أمام مقص كبير. كل هذا المشهد، الذي يبعث بعض الحياة في قطعة أرض مهملة بعيدة عن الطريق العام، تشبع من عرق أناس وأفكارهم. احتوى دخان تبغهم الرخيص ودخان أعصابهم في انتظار ممل من السبت إلى السبت لاستلام بعض الأوراق النقدية التي تترجم جهدهم المدفون في الإسمنت. قلما يتكلمون في الحقوق أو المواطنية أو حتى السياسة. أما إن كنت قد اعتدت أن تميز بين اللبناني وغيره من خلال معرفتك بنوعيات الثياب وقصات الشعر والمنظر عامة، فذلك يبدو مستحيلا هنا. أهلاً بك في الورشة. إنه عيدهم... الأول من أيار، عيد العمال. لم تهدأ الجرافة الصغيرة <<بوبكات>> طوال فترة الصباح، كانت مهمة سائقها <<المزعج>> إزالة الأتربة المحمولة بواسطة شاحنات من ورشة قريبة ونقلها لملء الفراغات الناتجة عن عملية حفر سابقة عندما بدأ العمل بالورشة. أما صاحب العمل الذي استأجر الجرافة وسائقها ليوم كامل فبدا حريصا أن لا يرتاح السائق لدقيقة. <<أليس ماله وهو حرٌ به؟>>. بعد أن يعبروا فوق الردم، يتهاوى ثلاثة من الشغيلة بالقرب من الكنبة القديمة في انتظار ماكينة الباطون الجاهز. <<اليوم نصيبنا ستة أمتار>>، ناجي المتكلم تجاوز <<ربع قرن>> من العمر. يتحدث إلى زملائه عن كمية الباطون المطلوبة لصب الأعمدة. يتلقى سخرية فؤاد بعد ضحكة: <<أنت ما الذي يهمك؟ ستة أو عشرة؟، النتيجة تناعش>>. تسأله عن مغزى النكتة التي لم تصلك. تعرف بعدها انه عامل يتقاضى يوميته المحددة آخر الأسبوع بغض النظر عن حجم العمل الذي قدمه، أما معلم نجارة الباطون أحمد، الذي تعدى الثلاثين، فيهمه أن يعد تلك الأمتار المكعبة المطلوبة من الباطون الجاهز إذ انه يتقاضى دفعة أسبوعية على عدد الأمتار المصبوبة. ينظر إلى المتكلم الساخر نظرة عتب، ويقول: <<والله، الأسبوع الماضي دفعت من جيبي إيجار شغيله>>، ثم يقوم أمامك بعملية حسابية بسيطة ويضرب عدد الأمتار بسبعة عشر دولارا، ثم يحسم منها عشرة بالمئة تبقى في ذمة صاحب المشروع حتى انتهائه، ويضيف: <<صاحب المشروع لا يهتم، اليوم مثلا إن لم يصل الباطون أنا من سيدفع، أليس كذلك؟>>. عندها يوفر فؤاد نكاته إلى حين. كان آخرون قد احتلوا الكنبة وتناوبوا شرب الليترات المتبقية من غالون ماء فقد لونه. انتصف النهار في الورشة، انتصبت الأخشاب <<الطوبار>> بعد جهد، ضامَّة بينها قضبان حديدية بنسب محددة أشرف عليها مهندس ومعلم. <<كادوا أي الشغيلة اللبنانيون يختفون في التسعينات>>، يقول عبد وهو يمسح جبينه بكم قميصه، ويضيف <<كان ذلك بعد أن تهاوت الأجرة اليومية>>. يتدخل فؤاد: <<عاد البعض للعمل في الفاعل تحت ضغط المعيشة، نحن نعمل بالأجرة نفسها التي يعمل بها العامل السوري أو العراقي>>. أجرة الفاعل يحددها المعلمون، ومعلمو نجارة الباطون، أو المقاولون، جعلوا هذه الأجرة بين العشرة والاثني عشر دولارا مقابل يوم العمل الذي يبدأ مع الشمس وينتهي متى أراد المعلم. <<لا يمكنك أن تزعّل المعلمين، بدك رضاهم بالنهاية>> يقول ربيع <<أنا أتكلم عن خبرة، فالمعلم يميزك بعد مدة عن العمال الأجانب ويمكن أن يزيد اليومية قليلا>>. لا بد أن ذلك يظهر جليا من معاملة العمال اللبنانيين. إذ انهم يحتلون الكنبة اليتيمة بالقرب من معلمهم الشاب، بينما يتجمع <<غيرهم>> في ظل الأعمدة الاسمنتية، أمام <<أرغفتهم المفتوحة على حبات البندورة والسردين>> يشير أحمد إلى شغيلته الذين يفضلون عدم الانضمام إلى الجلسة، خاصة بعد انسحاب السوريين من لبنان وتضاؤل عدد العمال منهم. ينضم إلى الشغيلة آخرهم، جابر الذي أخذ قسطه من خزان المياه البلاستيكي الأسود، بدأ الماء يزرزب من شعره الطويل. عمره الذي قارب الثلاثين وخبرته سمحا له بالتعرف على معظم معلمي الباطون في المنطقة. يقول: <<اليوم عيد العمال ليس عيد شغيلة الباطون، الورشة لا تنتظر ونحن كذلك إن لم نعمل فسنجوع>>. كلما سنحت له الفرصة يعيد على المسامع انه عاد إلى العمل في المصلحة مجبرا، كان يعمل في مؤسسة تجارية انكسرت وتمت تصفيتها. كان عليه أن يعيل أسرته الصغيرة <<الله وكيلك، عندي ولدين بدي طعميهم. وتقول عيد! على كل حال أتى الدركي صباحا وذكّرنا انه اليوم عيد والعمل ممنوع في الورش لكن المعلم تكلم معه>>. يبتسم الجالسون على الكنبة عند ذكر الدركي ابتسامة ذات مغزى. يفك عن وسطه حزاما تدلت منه مطرقة، يسند ظهره إلى جدار غرفة بنيت على عجل وتناثرت أمامها أعقاب السجائر في كل مكان. يتأكد من رفاقه انك لست من التجار أو المتعاملين في المصلحة. ويضيف: <<عندما يعود العمل بالكسارات لن تجدني هنا. فليرفعوا المنع عن الكسارات لمدة سنة واحدة فقط وسنعيش أفضل إن شاء الله>>. يفرش الشبان الأربعة ومعلمهم أحلامهم المتصاعدة مع دخان السجائر. يتهامسون فيما بينهم ويتندرون على صاحب الورشة الملاحق لسائق الجرافة يمينا ويسارا. بعد كسارات جابر تتناثر مصطلحات المصلحة والمصالح الرديفة من أفواه الجميع. إنها ثروتهم الحقيقية. خبرتهم التي من أجلها يستدعيهم معلمهم، يوقظهم من سبات يوم اعتقدوا انه عطلة. شيناجات، حديد مجدول، مبروم 12 ميلّي، خشب مجلي، دعامة ثلاثة وستين تحتاج إلى حجرين ممتلئين ومورينة، وعندما تتوقف عند أحد تلك المصطلحات مستفسرا: <<ما هو البريت؟>> يأتيك الجواب فورا: <<انه البلايود>>. تبتسم كأنك فهمت المعنى. ثم تعرف انه نوع من الألواح الخشبية استبدل فيه القديم <<الغشيم>> الذي يهرب رطوبة الباطون. يفسر لك ربيع: <<لن تحتاج الأعمدة إلى ورقة أو معجونة مثل المرآة ما شاء الله>>. يفاجئك وصول ماكينة الباطون الجاهز من الشركة رغم المنع اليوم. تبدو وكأنك المتفاجئ الوحيد في مجموعة من العمال اعتادوا على العمل في كافة الظروف والأوقات. تصل خلفها عربة كبيرة الحجم فوقها جسر مطوي يحوي خرطوما. يهب الشغيلة ومعلمهم، ينضم إليهم أولئك الذين افترشوا حصيرة الباطون في ظل الأعمدة. يتسلق ربيع ماكينة الباطون التي لا تهدأ يضيف إلى الخلطة بعض البودرة الاسمنتية الخاصة والزيت. يمتد الخرطوم فوق الأعمدة المطوبرة ينزلق الإسمنت الكثيف من الخرطوم ليملأ الأعمدة. يتعاون فؤاد وجابر على الرجراج الآلي الذي يحرك الإسمنت فلا يترك فراغات هوائية فيه. يصل البارد. يتناول الشغيلة سائل الزجاجات الباردة ببلعة واحدة وهم ينتقلون من عمود إلى آخر. يمتلئ الحديث بالنكات والضحك، الحديث الذي غدا يشبه الصراخ بين ضوضاء الآلات. ينسى الشغيلة آلامهم وآمالهم وهم ينخرطون في عملهم المتعب إلى حد الإرهاق كل يوم. يذكرون الأماكن وما صنعته أيديهم ويشيرون إلى تلك الأبنية الشامخة بفضل أيديهم ومطارقهم المتراقصة عن يمينهم. تأكل الأبنية من طاقتهم وبنيتهم وعمرهم، تمر الأيام أمامهم من السبت إلى السبت عندما يكونون بين الورش. وتمر بلا سبت أو أحد عندما يكونون خارج العمل. أجسامهم المستيقظة مع الفجر تستعيد كامل طاقتها مع أول سيجارة وينطلقون في عتمة المدينة . لكنهم يعرفون. يعرفون حق المعرفة إن ما تبدعه أيديهم هو المعجزة الحقيقية الوحيدة في هذا الوطن الصغير. إنها معجزة البناء. فحتى لو تجاهلوا عيدهم... كل عام وهم بخير.

Comments