صلاة المستودع

لا صلاة في المستودع بل ليل للأغنيات الحمراء
السفير 06/07/2005
عماد الدين رائف
أحس فهد بوطأة نظرات الناس عليه. كان يعرف مسبقا أنه إحساس كاذب، لكنها إحدى نقاط ضعفه التي لم يستطع أن يتخلص منها. كان عليه أن يجتاز شارعين أو ثلاثة ليصل الأوتوستراد. إلى حيث يمكنه أن يستقل الفان إلى الكولا. سمع من أحد زبائنه المفترضين خلال تأديته لمهمة من مهام وظيفته اليومية بتجمع ما وإضاءة شموع.
فهد، شاب عشريني، يعمل مندوبا للمبيعات بدون سيارة. وعليه أن يستقل الفانات أو <<اليومك بالف>> يوميا بين بيروت والضاحية إلى ما شاء الله. شعر أن عليه أن يسرع، فإذا كان الخبر صحيحا فسيلتقي اليوم بالشلة بدل أن ينتظر إلى يوم الموعد، يوم السبت. والشلة هم الشباب الذين يلتقي بهم لمرة واحدة في الأسبوع، في مستودع تحت الأرض <<لينفسوا عن همومهم>> كما يقول. والأصح ليقوموا بطقوس الغناء الذي لا ينتهي. فليسرع الخطى. يعرف انه سيجدهم هناك. أحمد، بلال، سامي، وزيراك... شبان يعملون طوال الأسبوع، كلٌ في وظيفته، ليلتقوا مساء السبت في مستودع للمواد الغذائية هو مكان عمل أحمد وإقامته في آن معا. لكنه ليس السبت، انه يوم إضاءة الشموع... فليكن.
<<تيشرت غيفارية>>
قطع فهد شارعا ليلج في آخر. شارع الحمراء، في منطقة الرويس في الضاحية الجنوبية لبيروت، رفع نظارته عن عينيه، تجمد في مكانه وهو ينظر إلى الفان المزين بعلمين أحمرين في قلب الضاحية المزينة بالسواد وصور مرشحي الانتخابات التي يكره. أزال الغبار المتراكم على الزجاجتين، بحلق في الفان الداكن. أخذ نفسا عميقا. أخذه العلم الأحمر المتراقص مع تيار هوائي خفيف يمر بالشارع. أخذه الفان الواقف أمام مدرسة صغيرة نسيت ألوانها. صارت خطواته بطيئة وهو يمر بالفان المتأهب للحركة وأهله. كان يريد أن يدخل من الباب الجرار، يريد أن يجلس ويتحدث مع أهل الفان الذين لا يعرف أحدا منهم... لكنه يعرفهم حق المعرفة. نظر إلى الداخل، وجد فتاة في تيشرت برتقالية غيفارية وفولار أحمر يساير شعرها المسبل... خانته قدماه. وتحرك الفان. مشى قدما، تحسس الزر الشعار الذي أخفاه في جيب قميصه. غرز إبهامه بدبوس الشعار ليحس بالألم. ربما ليعاقب نفسه على عدم إقدامه على فعل <<الصح>> هذه المرة.
كان باص آخر يقطع المدينة ببقية الشلة التي جمعتها رسائل الخلوي نحو منطقة الوطى. كان أحمد وزيراك قد تسلحا بشمعاتهما المحمية الشعلة بأكواب بلاستيكية. بدأت الدندنة في الباص الذي حمل معه أناسا آخرين لا يعرفونهم. لكنهم يعرفون لغة مشتركة معهم: اللحن والكلمة. <<اتجمعوا العشاق في سجن القلعة... اتجمعوا العشاق في باب الخلق...>>. امتد اللحن مع صوت زيراك الشجي. ذلك الصوت القادم من بحيرة وان البعيدة في عمق كردستان، وصار بلال الفلسطيني، الذي لم ير تلال فلسطين يمد بصوت صديقه حيث تلتهمه بحة الأسى المتأصلة فيه.
تحت أضواء بروجكتورات محطة الزهيري غنوا أغنياتهم... كان الجميع يتحرك إلى اللا أين... أناس يحملون شموعهم وصورهم. آخرون لا يحملون شيئا سوى النظرات الحائرة. كانت الشلة تمارس طقوسها الثابتة متصلة بالجميع ومنسلخة عنهم في آن معا. كانوا هناك معا... خارج سبتهم ليعلو الصوت الشيفاني الجبلي <<برخدان جيانه هيْ هيْ... برخدان جيانه>>. في يوم التشييع أمام الكنيسة غنوها... بعد أسبوع في صيدا... بعدها في بنت جبيل... بعدها حيث سيكون الجمع سيكونون معه، مع بعضهم داخله. كانوا يغردون بأصوات اجتاحها لهيب التبغ وجرحها الصياح... بعدها سيكونون في سبتهم في المستودع.
في المستودع
تضعف الإضاءة المركزية ابتداء من الرابعة موعد إقفال المستودع أمام الشركات والطلبيات. يكتفي أحمد وزميله سامي بلمبة يتيمة. تحول الإضاءة الخفيفة الصناديق المتراكمة فوق بعضها البعض إلى أشباح متأهبة للانقضاض على المجموعة الصغيرة. ثلاثة صناديق مياه معدنية، وكرسيان. <<واللي سبق شم الحبق>>، يعلق بلال وهو يقدم لك صندوقا آخر لتجلس عليه في انتظار الشاي. الدَقة المتعارف عليها على الباب الحديدي الكبير هي جواز عبور لبقية الشلة. يتصافحون على طريقتهم، يشدون على أيدي بعضهم البعض. يأخذ كل واحد منهم مكانه، فتعرف أن مكانك مخصص لمن يحضر زيادة. أنت لست من ضمن أفراد المجموعة التي تحلقت حول طاولة صغيرة، هي في الأصل صندوق آخر. روحك متعبة، لا تنسجم بسهولة مع الكلمات المتوازنة النبرات التي يطلقها أفراد المجموعة بالتتالي بين الأغنية والأخرى، حيث يحضر ماو، تشي، فلاديمير إليتش، انجليس، هادي العلوي، مهدي عامل... وآخرون لا يمكنك أن تحصي أسماءهم يحضرون هذه الجلسة الخاصة... هذه الحلقة المتصلة من الأيدي المتشابكة عند ترديد شعارات كنت تحسب انك لن تسمعها مجددا. فإذا هي حية، متجددة... بل أكثر حياة مع كل أغنية.
ينساب لحن بحري من آلة بلال ذات الوترين. <<يا حلم عيون الصيادي... بحرك يافا>>... يحضر الشاي والدخان. <<لم تعد الكتب والندوات تنفع. يجب أن نبدأ من هنا. من الغناء>>. يقول فهد. أحمد الأكثر خبرة، يضيف: <<إنها طقوس، نعم إنها صلاة، بعض هذا الغناء يعيد تمركز الروح في مكانها الصحيح بعد تعب الأسبوع بين بشر لا يؤلهون إلا الدولار>>. مع مرور الدقائق لا تلحظ أياً من الطقوس الغريبة التي كنت قد تصورتها أثناء محاولتك العقيمة للوصول إلى المستودع، بعد توصيف فهد للطريق. وكذلك أثناء انتظارك لسامي الذي وجدك على بعد أمتار من المكان. تقول في نفسك: أين هي تلك الطقوس، أين الصلاة؟؟ كل ما تسمعه هو أغان لسميح وشيفان وخالد والشيخ إمام، وأغان لأناس لا تعرفهم من وراء النهر... تغني ل<<عمي يا بو الشاكوش>>. ولكن بعد ساعتين من الانسياب مع الألحان، بعد ساعتين يتحول اللحن إلى تيار يختزل المسافات بين الأمم واللغات، لينحصر في الإنسان الذي تتجاهله ولكنه يسكنك. يستحضره الغناء المتجانس النغمات في فضاء المستودع الرحب... <<بعد مضي وقت تحس بانسلاخ عن أوهام بترقيع مجتمع طائفي وإعادة إنتاجه>>، كما يؤكد أحمد... يجذبك اللحن إلى عالم الفقراء السمر، إلى حيث <<عشانا عليك يا رب>>... إلى حيث <<ما فيش بالجيب ولا مليم>>. إلى القيم التي لا تجدها إلا حيث تجد هذه الرقة والانسياب... تنسى كل شيء وتلج في مناجاة لا تعرف حدودها... <<إنتَ الكريم وبنسألك...>>.
وهكذا، تمر الساعات في أمسية السبت المتكررة. في تصوف مادي غريب. نقطة التقاء بين الدين والإنسان. تحت الأرض. في مستودع يتحول في بقية أيام الأسبوع إلى جزء من العاصمة حيث تمارس <<أخلاق السوق>>، ويخرج عن ذاته في ليالي السبت.
فهد ثانية
بعد رؤياه للفان والأعلام، نظر الشاب حوله.
دارحول نفسه دورة كاملة. هو يعرفهم، يعرف صورهم وابتساماتهم وبريق عيونهم. كلهم أقرباؤه، كلهم هو... أولئك الذين يخرجون من الفجر إلى النجر في دولة أمراء الطوائف ليناضلوا نضالا يوميا لا ينتهي. بائعة الورد بابتسامتها الحزينة، بين ورداتها الحمراء تنظر إلى اللامكان على ضوء شمعة في ساعات التقنين غير المحدودة، تعطيك وردة على روح الشهيد، وردة حمراء أخرى... هي أيضا عايشت شهداء وقادة. سائق سيارة الأجرة المتساقطة أسنانه بفعل الزمن والخوف وأساليب التعذيب المبتكرة في أقبية المخابرات. بائع اليانصيب الملتصق بالجدار وهو ينظر إلى السيارات المارة ليحصل على قروش خبزه كفاف يومه... كلهم هو. بائع لعب الأطفال الناصح لزبونه دائما، ولا يريد أن يأخذ قرشا إضافيا فوق ربحه. فليكن السبت أكثر حمرة. <<علّيها... علّي عليّها. ملعون البدو يلويها...>>.

Comments