"عن طريق الخطأ"

أقف للمرة الأخيرة على شرفة شقتي المستأجرة. أنظر إلى البقعة الخضراء اليتيمة في غابة الإسمنت.
حين وقفت للمرة الأولى في البقعة نفسها، قبل وقت طويل، شعرت بفرحة عارمة. حدقت في الخضار، في النخلات الثلاث، والصبّار، والأشجار المثمرة. استمعت بسرور إلى نقيق الضفادع في البركة. واستسلمت بحواسي لعبير الأرض.
آنذاك، كان كل شيء يشي بأن الحياة مستمرة بشكل ما. وكان أمراء الطوائف شبه راضين عن أنفسهم بما ينهشونه من جسم الوطن وأقدار أبنائه.
لم تكن الأعمدة الحديدية، التي تلونت بالبياض، قد زرعت لإعاقة السيارات والأعصاب. لم تكن السلاسل المعدنية قد حددت بدقة كمية الحركة بالسنتيمترات والأنفاس بالملليمترات. كان الشبان يمارسون هوايتهم بالتمركز على كراس بلاستيكية، وإلى جانب كل واحد منهم نرجيلته. لم يكونوا قد تحولوا فجأة إلى «رجال أمن» مرتجل، على حواجز «من وين؟ لوين؟». والأولاد كانوا يلهون بما تيسر لهم من اللعب على الزفت والأرصفة الضيقة، لم يكونوا قد انخرطوا في قصة بوليسية، وهواجس لا تنتهي.
كان الجار جاراً. تسمع منه «صباح الخير».. لم يكن يؤدي مسرحيته السمجة في زاروب المنزل، ويوحي بأنه يعمل على إصلاح دراجته. أما اليوم فتسمع منه «ليش إنتَ بتحكي عربي؟». باتت لديه السلطة أن يسلخك من قوميتك، وانتمائك ويصنفك كما يشاء.. لمجرد ظنه أنك قد تخالفه في الرأي.
أنزل على الدرج للمرة الأخيرة. أتلفت حولي. أخاف أن يسلخ عني «الجار» وطنيتي، وأن يرسل آخر ليعتذر. فما أسهل الاعتذار لمن يتقن فنون الظن والخطأ. لقد فعل ذلك «لحمايتي»، لكني لسبب ما لا أفهمه.. وقد قام به «عن طريق الخطأ».
عماد الدين رائف

Comments