"أم الغيض"

طقس كانون ربيعيٌ دافئ "غير مسبوق"، تحتبس فيه المتساقطات. تتشقق الأرض التي تنتظر الغيث وتهزل الأنهر حتى تكاد تضمحل. ثلوج كانون وصقيعه صارا جزءاً من الذاكرة، يزينان بعض الأمثال الشعبية والمأثورات.
ذلك "غضب".
كثيرون يعتقدون أن البشر ساءت أفعالهم إلى درجة لم تعد تحتملها السماء فغضبت، وحبست المطر.
يروي الأجداد، كما دوّن عيسى اسكندر المعلوف في "لبنانه" ولحد خاطر في "عاداته"، أنهم حين كانوا ينتظرون المطر ولا يأتيهم، يجمعون أطفالهم في موكب ويخرجون إلى الساحات والطرق كل عشية حاملين تمثالاً مؤلفاً من خشبتين متعارضتين. يغطون الخشبتين بملابس فتاة، ويطوفون في الأزقة منشدين عدداً من الأهازيج، ينادون فيها إلهة يسمونها "أم الغيض" أن تغيثهم بالغيث ليحيي زرع آبائهم.
الآباء كانوا يرون أن دعاء أطفالهم لا يُردّ. وذلك لطهارتهم وصفائهم. فيتنحى الآباء عنهم إلى جانبي الطريق، يحرصون على انتظام صفوفهم وراء "أم الغيض". ويحضونهم على رفع الصوت في إنشادهم كي تسمعهم من سمائها. "يا أم الغيض غيضينا/ شتي في أراضينا/ شتي في أراضي الزرع/ تا يكبر وينشينا". يدورون ويدورون حتى الإرهاق.
لعلنا بحاجة إلى استسقاء مماثل يستنزل المطر.. ليروي الزرع. لتنهمر الثلوج مكللة قمماً تنتظرها.
أو لعل السماء لم تغضب. بل تستمع إلى "أهازيج" حزينة أخرى. نحيبٌ يلوّنه الجوع، لا يحتاج إلى صقيع "أم الغيض"، كي يخترق حُجب السماء.
لعل سماءنا ترأف في عزّ كانون بأطفال أطهار آخرين، نزحوا قسراً عن ديارهم، ورمتهم الأقدار بذل اللجوء، يلتحفون خيام نزوحهم.. ويخشون المطر.
عماد الدين رائف

Comments