توتة الدَّار

ترتبط كوفيته، في الذهن، بمشهد زقاق مُعتِم في مخيم برج البراجنة عشية الاجتياح. لا أدري ما سرُّ تلازم قسمات وجه أبو عرب المتعبة، بتفاصيل جدران تكدست عليها وجوه الشهداء وشعارات الثورة. ما سرُّ تساير صوته الجليلي الشجيّ وأزيز رصاص رشاش أخير، يدافع عن المخيم.
كانت الجدران المتنافرة «تغصّ بالصور»، لا يفصل أحدها عن الآخر سوى نصف متر، أو أقلّ. وعليها تتقابل وجوه من رحلوا، ولوّنوا الأحمر في العلم. تشبه أخاديد الانتظار الطويل، التي حفرها الزمن في وجه الشاعر الشعبي... تشبه ابتسامته التي تلي «راجع ع بلادي، ع الأرض السمرا». تشبه يده الصلبة القابضة على المكروفون، وانتظاره للحظات على المسرح قبل أن يعيدنا إلى «يا طير خدني ع الوطن ودّيني»، ورائحة الأرض و«البيادر والكروم»، و«تحت العريشة»... و«فرع الزيتونة» الذي يُجبِّرُ اللاجئُ به ضلوعَه المشظاة.
رحل إبراهيم محمد صالح، أحد روّاد الأمل المُبلسمين جروح الشتات. كحَّلَ عينيه بفلسطين التي غناها 64 سنة عن بُعد، وأغمضهما على الحسرة. عاش ليشهد على ارتكابات «أخوة يوسف»، وتجار القضية، ومصاصي دماء أطفال جفرا. ذرف دمعة مرّة على مصائر شعب، تناتشته العواصم ودكاكين «حقوق الإنسان».
كلماته المجبولة بالتراب، تعيدني طفلاً خلف «سينما بالاس»، في متاهة زواريب المخيم، حيث كان لا يجفُّ غراءٌ تحت صورة شهيد، حتى يُلصق فوقها وجه شهيد جديد... تعيدني إلى الأمل الذي يهدر كالسيل من حنجرة لاجئ بكوفية يردّد «هدِّي يا بحر هدي... طوّلنا في غيبتنا»... فأردد معه «يا توتة الدار حلفتك برجعتنا».
عماد الدين رائف

Comments