"فقش السارج"

أيام طفولتنا، كانت قد اختفت معظم المعالم الاحتفالية الجماعية لـ«أربعة أيوب».. بقي منها «تحريك المفتقة»، وذكريات الجدات، عن مسيرات شعبية نحو الرملة البيضاء، وقضاء الأربعاء الأخير من نيسان هناك.
العائلات البيروتية في «أربعة أيوب» كانت فرحة جذلة عفوية.. يعبّر عن ذلك بريق عيون الجدّات، وتجعّد وجوههن المبتسمة، وهن يسردن واحدة من أكثر مغامرات صباهن روعة، على استحياء.. ينبشن الذاكرة عن وجوه رفيقات، وسيدات صلبات كن يقدن المسيرة.
رسخت حكايات «أربعة أيوب» في أذهاننا، ونحن نتناوب على تحريك «المفتقة» في القدر الكبير، بملعقة خشبية عملاقة. تكون الحاجة أم خليل قد أضافت الطحينة والسكر والقرفة، إلى «الرز المستوي بمية نيسان» والعقدة الصفراء.
يدوم تحريكنا للخلطة نحو خمس ساعات بإشرافها. نتهرب لنسرق بعض حبات من الصنوبر «الغالي»، أو نتأفف من تعب، فتأخذ عنا الملعقة بهمّة صبية في العشرين، وهي كانت قد ذرّفت على الستين. رائحة زكية حريفة تعبق في جدران البيت الحجري القديم، تزكم الأنوف، وتتشربها المسام. نتحلق حول القدر ونعمل، لتبدأ فقاعات صغيرة بالظهور على وجهه.. نصرخ مجتمعين، كمن رأى اليابسة بعدما مخر بحر التعب «فَقَشْ السِارِج».. ونستسلم للذة «المفتقة».
«المفتقة البيروتية» تتطلب كثرة طباخين، ولا «تحترق الطبخة». لم تتأقلم مع المطاعم، والعلب البلاستيكية.. تحتاج إلى جهد جماعي، ومحبة باتت نادرة.
اليوم، يحاول بعض البيارتة الغيورين إعادة إحياء المناسبة.. وحولهم، في الزمن الرديء، يكثرُ «طباخون»، لكل منهم طبخته المحترقة سياسياً، واقتصادياً، ومعيشياً، وتربوياً، واجتماعياً.. ولا يظهر «السارج»، ولا «يفقش».. ولا من يحزنون.
عماد الدين رائف

Comments