"حسن الجلاب"

كنا نسمّيه «حسن الجلّاب»، لكن لم نجرؤ على مناداته بذاك الاسم، بل بـ«أبو خضر».. «احتكر» حسن لعقدين أو أكثر، بيع الجلاب في منطقة امتدت بين تحويطة الغدير، و«عين السكة»، التي كان يزين ساحتها تمثال نصفي لعبد الناصر. لم يرتبط جلّابه بشهر قمري، بل بالصيف وفرحة الانعتاق من المدرسة.
بطيئة كانت رحلة حسن إلينا.. كنا ننتظره بشوق. لم يناد على جلّابه يوماً.. يسبق وصوله رنين «طقّيشتين» (صاجتين معدنيتين) مربوطتين بإبهام يمناه ووسطاها. يعزف بهما لحن الطريق. عربته يعلوها إبريقان نحاسيان كبيران، وبرّاد للثلج المبروش. إلى جانبه وعاءان للقلوبات النيئة والزبيب، وكثير من الأكواب.
من معمل «بوظة العويني»، إلى «جلّ الحكيم» المزنّر بالصبار، ثم ينحو حسن بعربته جانب قناة المياه. ويقف هناك بوقار.. بقميص أبيض أنيق وبنطال، ووزرة جلدية.. مبالغاً في احترام مهنته. يتقاطر إليه الأولاد من بيوت الحيّ الصغير. أكون أول الواصلين، بعد إذن الأهل بالانطلاق، أقفز فوق الدرجات، أطير بين السروتين العملاقتين، وأقف في «حضرته» برهبة، أطلب كوباً بنصف ليرة.
كان يبيع الجلّاب فقط.. لا تمر هندي ولا عرق سوس. يملأ قعر الكوب الكبير بالقلوبات والزبيب بكرم، ثم بالثلج المبروش، ويفتح حنفية الجلاب، الذي يتدفق أسودَ، وما أن يلاقي الثلج حتى يصبغه بالحُمرة. تسرح في الجو عبقة البخور المحبوسة. وما أن يلامس السائل السحري الشفتين حتى يذوب الصيف وحرّه.
اختفى أبو خضر، توفي بـ«هيداك المرض». اختفى تمثال ناصر.. وجلّ الحكيم، وكل «حواكير» و«عودات» تحويطة الغدير، التي غرقت في الإسمنت... وحتى الجلاب، الذي بات يرتبط برمضان، غدا بلا طعم.
عماد الدين رائف

Comments