صياد الإسفنج

البترون شبه نائمة. يفترض بسورها الفينيقي أن يشد انتباه الزائر.. لكن «لؤلؤة البحر» بلا زوّار. هناك صيادون يحاولون التقاط لقمتهم من البحر، ويطالبون بين الحين والآخر بعيش كريم.
من ارتقاء السور، إلى القفز نحو حافة «كنيسة سيدة البحر»، ثم في دروب متعرجة، وصولاً إلى الأبواب الخشبية لمحال السوق العتيق، معظمها مقفل.. عدد من المستندين إلى الجدران، وهمومهم تتكدس إلى جانبهم.
لن أكمل سيري نحو المسرح الروماني. فأنا أمام أهمّ مما دُوِّن على لوحة وزارة الثقافة. نصب تذكاري، لكنه ليس لسياسي أو عسكري أو إقطاعي، أو رجل دين.. إنما لصيّاد. صيّاد إسفنج، يقف مبتسماً، ببزته الثقيلة وحذاءين معدنيين، حاملاً خوذته بيد، وغلة قعر البحر، بأخرى.
يقال عنه «شهيد البحر»، لكن أهميته لا تكمن في موته، بل في حياته التي قدّمها للآخرين، وعاشها على حافة الموت حالماً بدفع الفقر عن عياله.
ولدتُ في بيت صيّاد وعشت صدى حكاياته. هي مغامرة خطرة. ثقل البزة والحذاءين والخوذة، كفيل بدفعه إلى القعر، حيث تقاس المسافة بـ«القامات». ويربطه بالحياة نبريش للهواء وحبل للنجاة. يلتقط ما تيسر من الإسفنج بعصا، ويجمعه في شبكة. يتجمع الدم كله في صدره، وتتخدر أطرافه.. رفاقه في المركب يمدّونه بالهواء عبر مضخة، ويسحبونه من القعر ما أن يشد بالحبل. أي خطأ قد ينتهي بموته.
لكن الإسفنج اختفى عن شواطئنا. وذوو السطوة بصيدهم الجائر وفوضاهم، يهددون ما تبقى من خير البحر.
لم يستطع صيّاد أن يدفع الفقر عن عتبة بيته، يطالب ولا تسمعه دولته.. تتركه فريسة لزواريب الطوائف، وتحرمه من التقديمات الاجتماعية. ويبقى العيش الكريم حلماً.
عماد الدين رائف

Comments