لغة المدينة

أمرُّ أمام واجهة مطعم «مرّوش» بعد ثلاثة عقود على عملي فيه. لا يحضرني إلا وجه طفل يماثلني عمراً، يحمل وروداً ملفوفة بجريدة، يجول بين الزبائن على غفلة من مدير الصالة. يبيع وروده بسرعة، ليخرج ببضع ليرات. كنتُ أسمح له بذلك، ثم أنال نصيبي من التأنيب حين نُضبط متلبِّسيْن.
المطعم المَعْلم البيروتي المعروف مقفلٌ اليوم؟ يقال إن مالكه «يواجه مشاكل مالية وديون».
قضيت صيفيتين أو ثلاثاً تحت سقفه. كان يُطلق عليّ لقب «الزغَيَّر». ما أن تنتهي المدرسة، حتى يبدأ العمل. أصعب المهمات تمثلت بحمل عشرة صحون بيديّ فـ«الصينية مش للكُوميْ المحترف». أضغط على أطرافها بالأصابع، أحملها فوق حوافّ بعضها البعض، أو على باطن الساعد.
تطغى على الذاكرة صورة بائع الورد، ولقاءاتنا القصيرة جداً، بين «سينما الخيام» والشجرة العملاقة عند الزاوية.. إلى أن تعرفت إليه إثر حفلة أقيمت في مسبح، كنت أعمل فيها. ساعدته ما استطعت.. ثم شاركته وجبتي المخصصة للشغيلة فجراً، وتقاذفنا كرة، وتحدثنا.
صباح اليوم التالي أتاني إلى المطعم لا يحمل وروداً. جلس إلى الطاولة كزبون.. طلب صحن فول، لم يرضَ المدير إلا أن يدفع ثمنه مسبقاً.. ولم يرض بائع الورد إلا بالمازة كاملة. وقف الرجل ينظر إلى طفلين فرحين.. وهو «يبسبس».. كان ذلك آخر لقاء لنا.
أمس، وأنا أفكر بعائلات عمال غدوا بلا عمل.. رأيت وجه صديقي على واجهة المطعم المقفلة.. رأيته ينهض بعد إتمام وجبته، ينظر بتعالٍ إلى مدير الصالة، وهو يترك له بخشيشاً على الطاولة.
كان بائع الورد يجيد اللغة الوحيدة للمدينة.. لغة الأوراق النقدية.
عماد الدين رائف

Comments