ربيع 1945 في لبنان: الاحتفاء بأبطال الانتصار على الفاشية

مع توارد أخبار الانتصارات على الجبهات، التي كان يزفّها البرق والهاتف من العواصم الأوروبية إلى بيروت، عمل الفرع النسائي في "جمعية أصدقاء الاتحاد السوفياتي في لبنان"، على إحياء مميز ليوم الجيش الأحمر في 23 شباط 1945. لم تستطع صالة "سينما روكسي" استيعاب حشود المشاركين. وتناوبت على الحديث عن إنقاذ الجيش الأحمر للعالم من ويلات الحرب إميلي فارس إبراهيم وإميلي وديع نصرالله وثريا عدرة، ليختتم المهرجان بكلمة حماسية لرئيس الجمعية عمر فاخوري.
المهرجان الحاشد، أسس لمعرض "الاتحاد السوفياتي" في "المتحف الوطني" برعاية رئيس الجمهورية بشارة الخوري، بين الثامن والخامس عشر من آذار. حفل الافتتاح ضم ثلاثة آلاف شخصية، بينما توافد على المعرض في يوميه الأولين مئة ألف شخص، بمعدل 30-40 زائراً في الدقيقة (انظر: "الطريق"، عدد 10 آذار 1945).
كان لبنان المرهق من الحرب ينتظر اللحظة الحاسمة، لحظة سقوط النازية على أيدي أبطال الجيش الأحمر. وكان اللبنانيون  الذين قدورا بمليون ومئة ألف شخص، يعيشون ضائقة معيشية كبيرة مع تدهور القيمة الشرائية لليرة. وتظهر الوثائق أن أسعار الجملة ارتفعت بين العامين 1939 و1945 إلى 1019 في المئة، وأسعار المفرق إلى نحو 730، وغلاء المعيشة وصل إلى حدود قياسية حيث تجاوز خمسة أضعاف، 562 في المئة (انظر: جورج عشي وغسان العياش، "تاريخ المصارف في لبنان"). ذلك فيما كان نحو خمسين ألف شخص يعملون بشكل شبه دائم خلال الحرب، لمدة أربع سنوات، في خدمة الجيوش الحليفة وفي المؤسسات العاملة للمصلحة العسكرية، وكان أهاليهم ينتظرون انتهاء المعارك كي يعودوا سالمين. ويشير د. جبرائيل منسّى في كتابه "التصميم الإنشائي للإقتصاد اللبناني وإصلاح الدولة" إلى أن الحرب شكّلت تجربة قاسية بالنسبة للطبقات الوسطى غير التجارية ولأصحاب المداخيل الثابتة. كما أن العمال اليدويين بالكاد تمكّنوا من المحافظة على مستوى مقبول من المعيشة. فكيف الحال بالشغيلة والطبقات الفقيرة التي لم تجد ما يسد الرمق؟
بطبيعة الحال، لم يكن الذين توافدوا إلى مهرجان الفرع النسائي، أو زوار معرض المتحف الوطني، بالضرورة من الشيوعيين. ولا أولئك الذين ارتادوا دور السينما في بيروت، لمشاهدة الأفلام السوفياتية المترجمة إلى العربية والفرنسية، والتي كانت تروي بطولات الحرب. ذلك على الرغم من رفع الحظر عن الحزب الشيوعي من قبل سلطات الانتداب، واستمتاع الحزبيين بالحرية النسبية في تنظيم النشاطات والتحركات بعد دخول الحلفاء إلى لبنان سنة 1941. كان هناك شعور عارم لدى المواطنين بالوفاء للجندي الذي هزم أسطورة الظلامية الفاشية.
ذلك العام، شهد من ناحية أخرى مسعى جدياً إلى الاستقلال التام. فمطلع العام 1945 شهد تطبيق تقرير فرنسي سري صادر في آب 1944، فرض عقوبات تأديبية بحق ضباط لبنانيين بسبب "مواقفهم الاستقلالية"، وفي 29 كانون الثاني عمّت بيروت تظاهرات مطالبة بتسليم الجيش إلى الدولة اللبنانية. وهتف طلاب لبنان للجيش رمز الاستقلال وسياج الكرامة، داعين الحكومة إلى التحرك بكل الوسائل لتسلّم جيشها (انظر: "الجيش"، عدد أيلول 2003). إلا أن التعامل الخبيث والفوقي للانتداب مع اللبنانيين أرجأ تلك العملية إلى 12 تموز حيث تم الاتفاق في شتورا، على تسليم المنشآت والثكنات في 20 تموز، والوحدات العسكرية في 25 تموز، وتسليم قيادة وإدارة هذه القوات في الأول من آب.

اجتياز أسوار برلين

في ظل تلك الأجواء، حمل 24 نيسان خبر دخول الجيش الأحمر إلى برلين. وقد عنونت "صوت الشعب" صفحتها المحلية بـ"الاستعدادات الكبرى لسقوط عاصمة ألمانيا - مظاهرات الابتهاج والفرح بدخول الجيش الأحمر إلى برلين". ولفتت مقدمة الخبر إلى أن المحرر أخرّ طبع الجريدة (عدد 25 نيسان) والسبب: "بعد أن وضعت الجريدة ليلة أمس على الآلة الطابعة قام مندوبنا بجولة بالسيارة في أحياء العاصمة، وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة. ولكن المدينة كانت تبدو في تلك الساعة كأنها في أول ساعة من ساعات الليل. وكانت المظاهر في ساحة البرج وفي ساحات الأحياء وشوارع المدينة تدل على أن المدينة في عيد فريد غير عادي، عيد الفرح الأكبر بانتصار الحرية على الطغيان، وبقرب انتهاء الحرب باندحار موقدي نارها". ويشرح الخبر أنه بعد إعلان ستالين دخول الجيش الأحمر إلى برلين "انطلقت مظاهرات عفوية من أحياء بيروت، الأشرفية والبسطة ومارنقولا والمصيطبة وعين المريسة والمزرعة وحاووز الساعاتية والزيتونة والجميزة والنهر والدورة، مخترقة شوارع المدينة حاملة المشاعل والأعلام اللبنانية والسوفياتية وصوراً للماريشال ستالين، القائد الأكبر لجيش النصر والحرية. وكانت الأهازيج والأناشيد الوطنية والزغاريد والهتافات المنطلقة من صدور النساء والرجال في هذه المظاهرات تتجاوب في سماء العاصمة مع أجراس الكنائس من جميع أحياء المدينة فتؤلف نغماً موحداً يغمر النفوس بكهرباء الحماسة والغبطة العميقة".
تلك الاحتفالات العوفية تكتمل بـ"وكان الناس يزفون إلى بعضهم بشرى دخول الجيش الأحمر إلى برلين ويتعانقون في الشوارع ويقبلون بعضهم متبادلين التهاني. وكانت النساء تخرج من البيوت وتقدم لحملة المشاعل البترول اللازم لها. وكان الأهلون يلقون على المتظاهرين باقات الزهر ويرشون عليهم العطور، ويسيرون معهم هاتفين منشدين". وتلفت الصحيفة إلى أن عدداً من جنود الحلفاء انضم إلى المتظاهرين. الاحتفالات عمت قرى وبلدات لبنان، وتوقفت الصحيفة عند تظاهرات بلدتي الحدث وانطلياس، وقداس برج البراجنة الذي استمر الثالثة فجراً.
بعد تلك الليلة، كانت المناطق اللبنانية تعيش الانتصار ساعة تلو أخرى. وحلّ الأول من أيار في تلك الأجواء، حيث أقامت "عصبة مكافحة الفاشية" و"الحزب الشيوعي اللبناني" احتفالاً كبيراً في محلة الدورة، تصدر منصته فرج الله الحلو، ونقولا الشاوي، ويوسف خطار الحلو، وهاشم الأمين، وفؤاد قازان، ورئيف خوري، ومصطفى العريس، وبارور برتسيان. ولم تتسع الشوارع المحيطة بمنتزه سعادة الفسيح للجماهير المتفقدة من مختلف المناطق اللبنانية. وحيت الجماهير في الاحتفال الماريشال ستاين والجيش الأحمر وعائلات المحاربين اللبنانيين في صفوف الحلفاء. وعنونت "صوت الشعب" عددها الصادر في الثالث من أيار "مهرجان وطني جبار في بيروت احتفالاً بالأول من أيار: عيد الحرية والعمل، عيد النصر على الطغيان الفاشستي".

التاسع من أيار

في التاسع من أيار 1945، ومع إعلان هزيمة النازيين، ورفع العلم السوفياتي على الرايخستاغ الألماني، دعا "الحزب الشيوعي اللبناني" و"عصبة مكافحة الفاشية" إلى تظاهرة شعبية كبرى في ساحة النجمة في اليوم التالي، في بيروت، احتفالاً بيوم النصر العظيم وانتهاء الحرب. وأراد من التظاهرة، كما تظهر الدعوة، توجيه "تحية إلى جيوش الأمم المتحدة وشعوبها التي ناضلت وبذلت دماء أبنائها من أجل قضية الحرية، وتحية للمتطوعين اللبنانيين والعرب في الوطن والمهجر جميعاً، الذين حاربوا في جيوش الأمم المتحدة وساهموا في إحراز النصر على الفاشية وعززوا حق أوطانهم في الحرية والاستقلال". ومساء التاسع من أيار ازدان مكتب الحزب الشيوعي بالأعلام والأنوار الكهربائية والنارية. وحتفلت الفرق الشيوعية وأصدقاؤها في إحياء النصر. وطافت الفرق بالمشاعل أمام المكتب حيث أضرمت النار ابتهاجاً وعزفت فرقة موسيقية مختلف الأناشيد ونظمت ألعاب شعبية متنوعة.
وحمل "صوت الشعب" في ذلك اليوم على صفحته الأولى صورة الماريشال ستالين وإلى جانبه عنوان "كيف استسلمت ألمانيا.. الرايخ الثالث في ساعاته الأخيرة"، وكذلك خطاب رئيس الجمهورية بشارة الخوري بعنوان "إعلان يوم النصر في لبنان". لعل الملفت فيه إعلان يوم النصر عيداً لبنانياً وطنياً. ومما جاء فيه: "في هذا اليوم العظيم يطيب لنا أن نحيي جيوش الأمم المتحدة المظفرة، وأن نحيي كذلك جنودنا الذين قاموا، إلى جانب تلك الجيوش بقسطهم من الواجب في سبيل النصر. إننا في لبنان وقد وقفنا جميع مرافقنا الحيوية لنصرة القضية المشتركة وناضل أبناؤنا بشجاعة وإخلاص في مجموعة الجيوش الحليفة التي أمنت البشرية من الخوف والطغيان... والأن يسعدنا، نحن رئيس الجمهورية اللبنانية، أن نعلن يوم النصر في أوروبا عيداً وطنياً في هذه البلاد... فيوم النصر الذي نحتفل به بداية تأريخ لعالم خليق بالتضحيات التي بذلتها الشعوب، والآلام التي تحملتها الأمم. عالم سلم تسوده الحرية والأمن والعدالة، نعمل له نحن مع العالمين، لأننا جميعاً مسؤولون عن مصير الإنسانية، أمام الله وأمام التاريخ".
الاحتفالات الشعبية التي عمّت لبنان منذ إعلان استسلام ألمانيا النازية، استمرت في القرى والبلدات. ويوثق يوسف خطار الحلو لذلك
في كتابه "قصة النصر الكبير" سنة 1985، الذي قدم له جورج البطل. وقد خصصت "صوت الشعب" مساحات كبيرة للاحتفالات بدءا من عدد 13 أيار، حيث عرضت بالتفصيل لمهرجان الأشرفية. تقول: "كان مهرجان يوم النصر في الأشرفية مظاهرة لبنانية شعبية وطنية تأييداً للديمقراطية في لبنان وخارجه ضد بقايا الفاشستية وامتداداتها..."، مفصلة "أجمعت كلمات خطباء المهرجان الشعبي على الإشارة إلى عرفان الشعب اللبناني الجميل للجيوش الحليفة وللجيش الأحمر على الخصوص". وخطب في المهرجان فؤاد قازان، ومصطفى العريس، والشاعر الشعبي ميشال القهوجي، والكولونيل حليم سعاد، قبل الخطاب المدوي لفرج الله الحلو.
وفي اليوم التالي أقيم مهرجان مماثل في زحلة حضره أكثر من ستة آلاف شخص، القى فيه المطران نفين سابا قصيدة حيا فيها الجندي السوفياتي الرافع للعلم الأحمر على الرايخستاغ بقوله "يا أيها العلم المطل على برلين تشهد مصرع اللمم".
وكذلك أقيمت مهرجانات كبيرة في حاصبيا، وعمشيت، وحدث الجبة، ومليخ. وفي مهرجان بعلبك سار نحو ألف وخمسمئة شخص من حملة المشاعل في طرق المدينة وهم يابلون بالتصفيق والهتافات.

بناء الأرضية المناسبة

الاحتفالات الكبرى، على عفوية الجماهير فيها، والتي تعرفت عن كثب إلى مخاطر الفاشية في العالم، لم تكن عفوية بالنسبة إلى منظميها. فالحركة المناهضة للفاشية في لبنان كانت قد تأسست قبل الحرب بسنوات، منذ مطلع الثلاثينات. ولعل أول تحرك علني ضد الفاشية، وثقته جريدة "القبس" الدمشقية بخبر لمراسلها في بيروت، في 9 نيسان 1933، حين هاجم بعض الشيوعيين القنصلية الألمانية فنزعوا اللوحة الحاملة لشعار الدولة وداسوها بأرجلهم ثم رموها من فوق سور حديقة  القنصلية، وكتبوا على السور: فليسقط الفاشيست والاستعمار...". وفي عدد 12 نيسان يقول المراسل: "ان أحد مهاجمي القنصلية الألمانية ومهنته دهان، قال أمام المحكمة: انني شيوعي وقد قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في بيروت القيام بهذا الحادث الاحتجاجي فأصدرت لي أمر تنفيذه. ورفض أن يرشد على رفاقه".
ذلك الحادث يليه تأسيس "جمعية المساعدة الحمراء"، من أجل جمع الأموال للدفاع عن المعتقلين في السجون النازية. ويبرز الكاتب سليم خياطة في تلك المرحلة كمناهض شرس للفاشية، فيفضحها في كتابه "حميات في الغرب، المطبوع في بيروت أواخر 1933، ثم في كتابه الثاني "على أبواب الحرب في تموز 1934. وعندما اجتاحت الجيوش الإيطالية الفاشية الحبشة في تشرين الاول 1935 أصدر خياطة من منفاه في فلسطين كتابه الثالث بعنوان "الحبشة المظلومة".
في المقابل، تم رصد مظاهر للتأثر بالفاشية في لبنان وسوريا، من تأسيس "الشباب الوطني" صيف 1936 لفرق "القمصان الحديدية" التي تأثرت بالشكل فقط  فكان التنظيم وأخذ التحية مقتبسين عن النازية. وقد ذكر بعضها أنور العشي في كتابه "في طريق الحرية". وأهم ما كتب في هذا المجال دراسة الباحث الألماني غوتز نوردبروخ "النازية في سوريا ولبنان: تناقض الخيار الألماني 1933-1945". وقد لاقى الكتاب ردوداً من باحثين، لعل أبرزهم المؤرخ الأوسترالي عادل بشارة نشر في مجلة "المشرق" الناطقة بالإنكليزية في كانون الأول 2009، حيث دافع بشارة عن القوميين وفند مزاعم تأثرهم بالنازية، ففتح بذلك سجالاً مع نوردبروخ استمر إلى صيف العام التالي.
لكن على كل حال، بالإضافة إلى الماركسيين، شهدت الثلاثينات تيارات مناهضة للفاشية لمصالح مختلفة، رصدها الباحث عبدالله حنا في كتابه "الحركة المناهضة للفاشية في سوريا ولبنان 1933-1945"، وهي تتمثل في التيار الإسلامي، والتيار الشرقي الإنساني الوطني، والتيار القومي العربي، إلى جانب المنتفعين من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني.
وشهد ذلك العقد صدور جريدة "صوت الشعب" في 15 ايار 1937، ورأس تحريرها نقولا الشاوي، وأخذت على عاتقها مهمة كشف مؤامرات الفاشية والاستعمار ومحاربتهما. كما شهد صدور مجلة "الطليعة" الدمشقية حاملة لواء مناهضة الفاشية، في التاريخ نفسه. ومهدت الصحيفتان والمنشورات والكراريس لمؤتمر مكافحة الفاشية السوري اللبناني الأول في 6 و7 أيار 1939. وذلك بعد اربع سنوات على تأسيس "عصبة مكافحة الفاشستية"، والتي كان أمين سرها المهندس انطوان ثابت.
وعندما اندلعت الحرب في أيلول من العام نفسه، أغلق الفرنسيون "صوت الشعب" وزجوا بالمناهضين للفاشية من المثقفين والعمال في السجون. وبقيت تلك الحركة في صراع يومي مع سلطات الاستعمار حتى دخول الحلفاء إلى لبنان في العام 1941.
حينذاك ازداد الحركة ونشاطها على الرغم من عدم طروء تغييرعلى بنيتها: الحزب الشيوعي اللبنانية والتيار الديموقراطي الثوري والمثقفون. وقد انضم الأديب عمر فاخوري إلى الحركة في سني الحرب وبرز كأحد أعلامها، وأسس إلى جانب يوسف يزبك، ورئيف خوري، وكامل عياد، وأنطون ثابت، وقدري قلعجي "لجنة مكافحة النازية والفاشية في سوريا ولبنان"، التي أصدرت في 20 كانون الأول 1941 مجلة "الطريق" الثقافية، وريثة مجلة "الطليعة (1935 – 1939). وتوجت "الطريق" عامها الأول بالاجتماع الموسع للعصبة في بيروت، من 18 إلى 20 كانون الأول 1942. وحضره مثقفون من بيروت ودمشق وحمص وطرابلس والشوف وحلب ومنطقة العلويين والبقاع ومرجعيون. وقادهم الاجتماع الموسع إلى نضال سنوات دحر الفاشية وصولاً إلى النصر الكبير في أيار 1945.


Comments