من د. جمال القرى - قراءة في الكتاب

ملاحظات حول كتاب عماد الدين رائف
"حكايات كوندوروشكين - لبنان قبل قرن بريشة روسية"


قدم عماد الدين رائف للكاتب الروسي كوندوروشكين ترجمة لـ"قصص سورية" كان قد كتبها المؤلف بعد عودته من الخدمة التربوية لمدة خمس سنوات (1898- 1903) قضاها بين سوريا ولبنان وفلسطين. وهو خدم في مدارس "الجمعية الامبرطورية الارثوذوكسية الفلسطينية" التابعة للإدارة الجنوبية للأقطار الثلاث التي كانت تشكل وحدة جغرافية وسياسية واجتماعية..

فبعد التعريف بالكاتب وبمستواه التعليمي، يكتب رائف عن مرحلة خدمته في الشرق، ومن ثم عودته الى روسيا ونشاطاته الأدبية والاجتماعية والسياسية الى حين وفاته العام 1919 على يد أحد جنود الجيش الأحمر.

أتت الكتابة والتعريف، كما متن القصص الصغيرة المترجمة من كتاب كوندوروشكين الذي كتبها قبل مغادرة بلادنا وطُبعت في مجلة "روسكويه بوعاتستفو" سنة 1902 ( ما عدا قصة شاهين هدلا التي كتبها بعد عودته الى روسيا) سردية، أي بعيدة عن ربطها بالمرحلة السياسية والعسكرية التنافسية في ذلك الوقت بين روسيا وتركيا والغرب، كما واقع روسيا السياسي الداخلي الذي كان على شفير تغيرات جذرية مهمة. أما القارئ، فلا يلحظ  أسباب إنشاء تلك الجمعية ونشاطاتها في ذلك الزمن. إنما ما يثير الإنتباه، هو اسلوب الكاتب في وصفه للحال الاجتماعية وللطبيعة في تلك المناطق، وكان أشبه بدور مستشرق يُعدّ تقريراً لبلاده عن انطباعاته، وانطباعاته تلك، ترتبط بتحضيره كشخصية تربوية تتبوأ مركزاً تعليمياً، ومن ثمّ نائباً للمفتش العام للجمعية.
ان تاريخ بداية هذه الجمعية يعود لسنة  1871 حيث كانت في فلسطين الوكالة الفلسطينية والإرسالية الروسية لتأمين شؤون الحجاج الى بيت المقدس. وحين زار ختروفو سوريا وفلسطين أسوة بغيره من موظفي الحكومة الروسية وشاهد فيها حال الزوار والأرثوذكس الوطنيين السيئة، تحركت عواطفه التقوية واشفاقه، وقرّر مساعدتهم على تأسيس جمعية خيرية. وفي العام 1882 حُلّت الوكالة وأنشئت الجمعية بعد أن أُضيف اليها لقب الامبرطورية مما أفقدها شيئاً من صبغتها الخيرية الإنسانية، وغدت متأثرةً بنفوذ القياصرة وتتمتع بمزيد من رعايتهم. وكانت هذه الخطوة خطوةعادية في سياسة القياصرة التقليدية، الذين قدموا أنفسهم كحُماة الأرثوذكسية في الشرق الأدنى، بهدف الوصول إلى مكاسب سياسية،  وباتت الجمعية مؤسسة تابعة للدولة، ورُبط بين سياسة الجمعية التعليمية وأهداف السياسة الروسية. أما أهداف الجمعية فتلخّصت بشدّعضد الأرثوذكسية المحلية وتعريف الشعب الروسي بالتراث المسيحي الشرقي وبالأماكن المقدسة وقيادة الحج الروسي الجماعي إلى الأماكن المقدسة·

أما الأسباب التي دعت الى إقامة هذه الجمعية ودعمها من القيصر مباشرة ومن الخارجية، فكان ان روسيا وجدت  نفسها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على هامش الأحداث في الشرق الأوسط· فقد اضرّت الحرب الروسية التركية بالعلاقات بين البلدين، بينما احتلت بريطانيا مصر سنة 1882، وقويت مؤسساتها في فلسطين في عهد الأسقف غوبات، وازدهرت في عصره أيضاً الجمعيات الدينية الألمانية· وقام بين فرنسا والموارنة تعاون وثيق، ففتح الرهبان الفرنسيون المدارس والمستشفيات، وشُقّت الطرق وازدهرت التجارة في الساحل السوري· وتابع المنسنيور براكّو (1872 برنامج سلفه المنسنيور فاليركا في فتح الرعايا والمدارس اللاتينية في فلسطين والأردن· بينما لم يُفلح الروس إلاّ في التنازع بينهم، واتجهت الملّة الأرثوذكسية نحو الانحطاط. فالأرثوذكس في فلسطين منقسمون بين نزاع يوناني - روسي، ويوناني - عربي· بينما استقطبت الطوائف الكاثوليكية والبروتستنتية بمدارسها ومستشفياتها العائلات والشبيبة الأرثوذكسية· فيلاحَظ في منتصف القرن التاسع عشر ازدياد تدريجي وواضح في عدد مؤمني الكنيستين الكاثوليكية والبروتستنتية على حساب الكنيسة الأرثوذكسية. هذا ما دفع روسيا أسوة بالدول الكبيرة الاخرى الى شقّ طريقها نحو الشرق عبر المدارس بداية، ومن ثم التعليم العالي بإرسال بعثات الطلاب المتفوقين الى روسيا لدراسة اللاهوت والمواد الأخرى، وعبلر انشاء الكنائس والمستوصفات والمستشفيات المجانية..
في سياق هذا الواقع، تصبح قراءة قصص كوندوروشكن أكثر فهماً من ناحية ارتباطه بأهداف تلك الجمعية التي كان عضواً فيها. فقد نقل صورة عن أحوال المنطقة بما يخدم سياسة البلاط القيصري حينها. إذ يلوّن صور الناس والطبيعة والحيوانات بلون رمادي واحد، ويُسبغ عليهم صفات القسوة والافتراس، هذا عندما تكون غالبية سكان المنطقة المصوّرة من المسلمين والدروز المتوحشين الذين يقتلون المسيحيين الارثوذوكس ويحرمونهم من الحياة ويهجّرونهم، ليستنتج لاحقاً بأنهم بحاجة ماسة للحماية الامبرطورية الروسية. كما أن رجل الدين الارثوذوكسي المحلي، لم يسلم من تشنيع الكاتب، وهنا يمكن قراءة الصراع اليوناني- الروسي. أما المناطق التي كان يشعر فيها بالروح الارثوذكسية الحقّة، كمشغرة مثلاً، فكان وصفه لناسها ولطبيعتها يختلف تماماً...ولم يوفّر عمل الارساليات الكاثوليكية، فبرأيه أنها فشلت في تأمين ما ابتغته، وهذا مجافٍ للحقيقة.

أن توصيفه لتلك المرحلة جانبت الموضوعية، حيث أنه لم ينقل الى مجتمعه سوى الشكل المتخلّف للمجتمعات الشرقية، غير آبه بالإرهاصات الفكرية وبروح التحرّر التي أتخذت أشكال جمعيات أدبية وثقافية وسياسية في سوريا ولبنان وفلسطين تنشد التخلّص من الاحتلال العثماني.
يمكن للقارئ الاستنتاج ان كتاب كوندروروشكين ينتمي الى أدب المرحلة التحضيرية لثورة اكتوبر، والكاتب لم يكن من مناصريها. إذ كانت له توجهات دينية محددة، كما أنه أبدى لشخصية ومذهب " إليادور" ، وهو الناشط الروحي والسياسي الشعبوي الذي أثار جدلاً في الحياة السياسية والروحية الروسية اهتماماً كبيرأ. لكل ذلك، جرى طمس كتاباته في المرحلة اللاحقة، مع ان الموضوعية تقتضي بضرورة نشر كل انواع الأدب بكافة تقاسيمه ومحمولاته الفكرية، فإن الإضاءة عليه الآن هي بالأمر الإيجابي للتعريف عن تلك المرحلة، وضرورة نقدها وعدم تبنّيها خصوصاً في هذه الأيام، حيث أن الروسافوبيا تأخذ منحى عدائياً نتيجة الغزو الجوي الروسي لسوريا، وحيث يمكن فهم الأمر على أنه استمرار لما كانه سابقاً عبر الارساليات التربوية.

تُسجّل طبعاً ايجابيات كثيرة لعمل تلك الجمعية من حيث تعليم اللغة الروسية، مما فتح باب التبادل الثقافي الذي يمكن أن يُبنى عليه، وهو تبادل الأفكار الحرة، كما كان في منتصف القرن التاسع عشر بين مفكرين وكتاب وأدباء روس، على سبيل المثال تولستوي، الذي وسّع دائرة نقاشاته الفلسفية وآرائه الدينية الاصلاحية بين مصر وسوريا ولبنان.

د. جمال القرى


Comments