من الباحث الزميل عباس جعفر الحسيني - قراءة في الكتاب

"ولا يزال المسيحيون يعيشون حتى اليوم تحت الظلم والاذلال... اخترعوا لأنفسهم أملاً جديداً، فهم يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنه إن لم يكن في حياتهم، ففي حياة أولادهم وأحفادهم سيأتي الروس إلى أرضهم ووقتذاك ستنتهي مآسيهم".
لعل هذا المقطع يختصر كل شيء في كتاب "حكايات كوندوروشكين – لبنان قبل قرن بريشة روسية" عماد الدين رائف، المترجم عن اللغة الروسية، والذي سجله كاتبه في فترة عمله في بلادنا في بدايات القرن العشرين. هو الشرق إذا وهي روسيا في صراعها منذ أكثر من 300 عام مع الإسلام المتمثل آنذاك في الامبراطورية العثمانية، والذي لم يتغير فيه شيء اليوم، سوى تفصيل بسيط حيث إن المسيحيين في الشرق أضيفت إليهم باقي أقلياته بانضوائها تحت العباءة الروسية في صراعها مع النيو-إسلام اليوم..
هو الشرق وهي روسيا التي تتقدمها كنيستها الأرثوذكسية ماضياً وحاضراً، وهو أي المؤلف "ستيبان كوندورشوكين" المؤمن المتدين الأرثوذكسي، والذي لا يخفي في كتابه ذاك التعصب المدفون داخل الكنيسة الارثوذكسية "لم يسمح للمسيحيين برفع جرس الكنيسة لعل قرع الجرس يحدث صداعاً لدى النبي محمد في السماء" (قصة شاهين هدلا) أو في ( قصة أكولينا في طرابلس) "المسيح كان يتحدث الروسية ...لا وجود للغة اسمها العربية". لكن ألم يكن سبب هذا التعصب ذاك الاسلام الذي لم تتغير حاله في تعاطيه مع الآخرين من باقي الديانات؟ فالمسيحي "كلب نجس وكافر" وليس له امتطاء الفرس، وإن تقدم بشكوى ضد مسلم فهي خاسرة حكما.
لا أعرف إن كانت غالبية القصص التي نقلها المؤلف الروسي واقعية، أو أنه اضاف من عندياته ما يناسب فكره وتوجهه السياسيي والديني تحديداً (يصف الرجل الذي يقيم عدة علاقات جنسية بالمنحط ويعتبر ذلك سبب موته - في قصة ابو مسعود)، لكن يُشهد له أنه نقل لنا عادات وتقاليد سكان، بل وطبيعة وجمال تلك المناطق، من راشيا إلى حاصبيا إلى شبعا وحرمون، فيما يعرف اليوم بالجنوب اللبناني.
لكن من المؤكد أن مؤلف الكتاب لم يكن من أولئك المستشرقين الذين يتلهون بظواهر الأمور أو بسخافتها بل دخل إلى الأعماق وإلى مكنونات الشرق، ليس صخوره ووديانه وجباله وأشجاره، بل إلى عذابات إهله كالراقصة (في قصة بنت البيدر) وبساطتهم وذكوريتهم المستفحلة حتى عند المسيييحين (قصة المصيبة وحيدة) وصراعاتهم حتى داخل الطوائف المسيحية. وتبقى قصة إسبر في (حفار القبور) مثالا صارخا عن تلهفنا لتقليد واقتباس ما يصدر لنا من الغرب حتى من دون حاجتنا له.
في جانب آخر هناك نقطة بالغة الأهمية، وهي تعني قلة أو من هم باحثين مثلي، يدركون صعوبة العمل ومتعته في البحث عن مثل هكذا أمور، ذلك أن الاستاذ عماد الدين رائف يسجل له عمله الشفوف والشاق في إعادة البحث في هذا التراث المنسي حتى عند الروس، ولا يغيبني هنا أن الحظ وأنا ابن الجنوب العاشق لتراثه أن الكتاب يلقي الضوء على مرحلة مهمة وغير معروفة من تلك الحقبة، كما يسلط الضوء لنا أيضا على جزء من الفكر الروسي التوسعي تجاه الشرق سابقاً واليوم، خاصة لدى من هم أمثالي من متذوقي الأدب الروسي .
قلت فيما مضى ولحظة قراءتي الأولى للكتاب أنه أعاد لي متعة القراءة حيث بتنا حتى في هذه الهواية نخضع لما يبتغيه الاعلام والتسويق والمغالاة.
أخيرا إن أجمل ما في الكتاب وأكثره ألما وحزنا ويحمل معطيات ومعاني كثيرة هي قصة (شاهين هدلا). 
شكرا عماد الدين رائف دمت للثقافة وللحرية وصديقا لي.
عباس جعفر الحسيني (كاتب  وباحث)

Comments