أ.د. زهير هوّاري - قراءة في الكتاب

تابعت عمل عماد الدين رائف قبل أن أتعرف عليه، إذ كانت تصلني مجلة "اتحاد المقعدين اللبنانيين"، وكان عماد من محرريها وإدارييها. وكانت مجلة تحمل بين دفتيها قضية المعوقين، لكنها كانت غنية بالمواد الصحافية المتنوعة. ولمّا عمل رائف في جريدة "السفير"، وكنت مسؤولا عن قضايا التعليم والمجتمع المدني، تعرفت عليه شخصيا. ومع أنه عمل في قسم آخر غير القسم الذي كنت أديره، إلا أن صداقة متينة نشأت بيننا تعززت عبر لقاءات كانت تتناول نقاشات حول المسائل التاريخية على العموم، وبالخصوص عمل البعثات التبشيرية الإرسالية في منطقتنا، ومن بينها البعثة الروسية التابعة للجمعية الامبراطورية الفلسطينية الأرثوذكسية. وعندما غادرت "السفير" متفرغا للتدريس في الجامعة اللبنانية – كلية التربية – قسم الاجتماعيات والانسانيات، لم تنقطع صداقتنا، بل ازدادت رسوخا. وكنت دائم التشجيع لعماد من أجل متابعة دراساته العليا مستفيدا من إجادته اللغة الروسية ودراساته السابقة فيها، والتي تملك في أرشيفها ما تقدمه للتاريخ العربي الحديث على نحو محدد في ضوء حضور الدولة الروسية في سياسات المنطقة حربا وسلما.
منذ أسابيع قدم لي عماد الدين كتابه "حكايات كوندوروشكين – لبنان قبل قرن بريشة روسية"، ولما كنت من المطلعين على فنون الروايات والقصص والشعر الروسي فقد فاجأني نص الحكايات من زوايا عدة، إذ رغم أنني عملت على البعثة الروسية في اطار متابعتي لعمل البعثات الارسالية الأجنبية، وأصدرت مؤلفا في العام 2015 يحمل عنوان "التعليم في العهدين التركي والفرنسي: هاجوج الارساليات وماجوج الطوائف"، إلا أني لم انتبه إلى معلم في البعثة الروسية اسمه كوندوروشكين، إذ أن ما قدمته ونظرا لتنوع وتعدد البعثات لم يقف عند تفاصيل أشخاص أعضاء البعثات بالاجمال، إذ كان همي هو رصد الخطوط البيانية العامة لعملها ونشاطها.
 لكن الحكايات التي قدمها عماد على لسان كوندوروشكين هي ما أثارت اعجابي بهذا المعلم - الكاتب الذي أمضى في بلادنا سنوات قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، لكنه قدم لنا ما لم تقدمه عشرات الدراسات والابحاث حول هذه المنطقة. قد لا أكون مبالغا بالقول إن القصص التي خطها قلم كوندوروشكين جاءت لتقدم لنا بلادنا منذ قرابة 110 سنوات على نحو مذهل لجهة العلاقات بين الجماعات المحلية في المنعطف الأخير من نهاية الدولة العثمانية وبداية عصر الانتداب الفرنسي. ما إن بدأت، حتى وجدتني مدفوعا إلى قراءة الحكايات بشغف، بالنظر للغة الساحرة التي استعملها المؤلف والتي أجاد عماد عملية نقلها الى العربية، حتى باتت لدى القارئ، وكأن الأصل كان مكتوبا بالعربية أساسا، إذ لم أشعر ولو للحظة واحدة إنني أقرأ لمؤلف روسي شاءت الصدف أن يعمل في بلادنا ويتنقل بين أجزائها فسجل مشاهداته على غير أسلوب الرحالة، بل على غرار كبار القصاصين الذين يدونون ملاحظاتهم عن الأشخاص والأمكنة التي يعبرون بها، ثم يعيدون سبكها في قالب مدهش.
 أظن أن عماد على لسان المؤلف كوندوروشكين قدم لنا مادة تنتسب إلى التراث الروسي الغني لجهة فن القصة والرواية وحتى المسرح أو السينما لجهة التصوير المدهش للشخصيات والأمكنة في لحظات معينة. ولعل الصدف تشاء أنني أعرف كل المناطق التي دارت فيها القصص وأعتقد أن الوصف الذي خطه المؤلف ما زال صالحا حتى اليوم حيث يمتزج الشعر بالجغرافيا والحب بالبلاغة. بل يمكنني أن أتجاوز ذلك لأقول إن المضمون الذي حملته الحكايات أضاف لمعارفنا عن المجتمع في لحظات تحوله الكثير. ومن جانبي يمكنني أن أقول بثقة أن هذه المسارح لحكاياته والتي باتت ضمن الجمهورية اللبنانية تقدم معرفة عميقة للحال الراهنة حيث تعيش المنطقة انفجارا في مجتمعاتها التي لم تبلغ بعد حال الوحدة المحققة.
عندما أقدم شهادتي في هذه الحكايات فإني أقدم شهادة في معلم روسي عبر بين ربوعنا ودوَّن بلغة متدفقة ما رأى أنه الأسلوب الأمثل للكتابة عن مشاهداته. وبالفعل فقد أضاف إلى القصص الكلاسيكية اللبنانية التي تناولت تلك المرحلة أو تلك التي تلتها الكثير. بالتأكيد سيكون هناك مكان مميز لهذه النصوص، إذ لم أعرف أن معلما آخر من معلمي البعثات التبشيرية الكثيرين قام بكتابة نصوص قصصية على وفرة من كتب انطباعاته ومشاهداته. لقد أضاف كوندوروشكين لنا الكثير، وظل هذا الكنز بعيدا عن متناولنا مع أنه يعنينا في المقام الأول حتى جاء عماد الدين رائف فقدم لنا هذا العمل الرائع الذي أجزم أنه سيجد مكانا له في مكتبات كثير من اللبنانيين الذين يعنيهم التاريخ والقصة، ليس لأنهما مجرد حكايات، بل لأنهما مفتاح فهم الواقع بتعقيداته وتشابكاته ومحمولاته العميقة.
ختاماً، أرجو من عماد ومن كل من يملك قدرة على مساعدته في استكمال ترجمة أعمال كوندوروشكين وما يتقارب مع هذا المنحى في الأدب الروسي كونه حاجة عربية عموماً ولبنانية بالتحديد. وآمل من عماد وكما فعل في هذا العمل أن يقدم لنا المزيد من الأعمال التي تخاطب جذورنا وجهد وعرق أولئك الذين بذلوا في بلادنا كل طاقة من أجل تقدم الانسان كل انسان.

الدكتور زهير هواري
أستاذ جامعي وصحافي

Comments